الاثنين، 27 أبريل 2009

الصورة الثالثة: ساحل الشمس وميناء غرناطة العربي


مدينة بيكاسو خالية بالليل صاخبة بالنهار ــ مشكلة اللغة ومشقة التفاهم بالإشارة ــ نسمة الجنوب التي يغار الشاعر على حبيبته منها ــ المناظر الخلابة والشواطئ الجميلة والفيلات الأنيقة.
حطت بنا الطائرة الصغيرة ذا ت المحركات .. والتي أحسسنا فيها بالضيق حين أقلعت بنا .. فأخذ الهواء يلعب بها ولكن حمدنا الله إذ لم تلبث طويلاً حتى هبطت بمطار ملقه، لأن المسافة بينهما وبين طنجة ليست طويلة وكان الليل قد انتصف ، فوجدنا المطار خاليا.. وموظفيه قلة ، وجميعهم لا يتحدث من اللغات سوى الإسبانية .. ولكننا لم نتعطل .. فسرعان ما أنهوا الإجراءات اللازمة ..ولما اتجهنا من المطار إلى الفندق وجدنا شوارع المدينة أيضا مقفرة .. وعند وصولنا إليه حرنا مع المسئولين عنه ، فأخذت أبحث عن برقية تسلمتها من مكتب الخطوط الأيبيرية في طنجة ، تتضمن موافقته على إقامتنا فيه .. ولم أعثر إلا بعد وقت .. فشكرت الله إذ أنقذتنا من مشقة التفاهم بالإشارات ، والحقيقة أنني استغربت هذا الوضع العجيب .. فالمدينة تعتبر ثاني مدن الجنوب الإسباني بعد اشبيلية ..وميناؤها كما علمنا يضج بالحركة وحوانيتها تزخر بالبضائع ولها شهرة عالمية بأنواع من الفواكه والمشروعات .. وفيها من الآثار ما يغري السائح بزيارتها كالقلاع المغربية المتميزة بها .. وكاتدرائيتها التاريخية المقامة منذ القرن السادس عشر ، وتعتبر كذلك من المشاتي التي يفر إليها الأوربيون من صقيع بلادهم .. وكل الأماكن المحيطة بها تزدحم برواد المتعة والراحة والاستطلاع .. وتحفل بكثير من الشركات والمكاتب السياحية وبالعديد من المصارف والبيوت المالية . فعلاً استغربت أن تكون مقفرة ومطارها لا يوجد فيه من يتكلم غير الإسبانية وفندق من فنادق الدرجة الأولى لا يعرف النزيل الأجنبي التفاهم مع أصحابه.. وبالكاد حجزت أيبيريا لنا غرفة فيه ..وبدافع من الفضول رغم التعب خرجت استطلع ولكن دون جدوى.. فلا مطعم أو مقاهي أو بشر يمشون .. فالحركة تكاد تكون معدومة أو بالأحرى معدومة عدا سيارات البوليس .. وبعض أفراد من الشرطة وقوفا في الشوارع ..هدوء تام وسكينة تكاد تكون قاتلة .. ولما كان الجوع قد استبد بنا ، ولم نجد في الفندق ما نأكله ، رحت أجوب الشوارع فسألت شرطيا : أجابني بلطف بما فهمت معرفته منه عدم معرفته ما أقوله، وظلت على هذه الحال فترة حتى نالني تعب وصل درجة أقرب ما تكون إلى الإعياء فعدت أدراجي للفندق ..وعند مدخله وقعت عيناي على ساعة الحائط الكبيرة المعلقة في واجهة المدخل، فإذا بعقاربها تشير إلى الرابعة صباحاً، بينما ساعة يدي لم تتجاوز الثانية.. فاعتقدت أنها متوقفة ولكنني سمعت دقاتها ، ولكي أتأكد سألت بالإشارة موظف الاستقبال الكهل ، فأراني ساعة يده المطابقة لساعة حائط الفندق..واستمرت لغة الإشارات بيننا فهمت أنهم في إسبانيا يقدمون الساعة خلال فصل الصيف مائة وعشرين دقيقة ، فأدركت سر إقفار شوارع غير أنني لم أقتنع تماما لانعدام حياة الليل فيها،. لأن السياحة مصدر من مصادر دخلها . والمنسقة وما أن طلع الصباح حتى رأينا مقاهي أرصفتها العاجة بالرواد ، ومصارفها المنتشرة في أحيائها، ومتاجرها العامرة بالنشاط وشوارعها المشغولة بالسيارات والمشاة ولكن رغم كل ذلك ورغم أنها موقع انطلاق ومركز تجاري ، ، منها نستطيع زيارة جميع مدن الجنوب الأسباني كاشبيلية وقرطبة، وغرناطة ، وطريفة, وقادس .. ن والترمنيلوس ، وميدرجال، ومختلف المنتجعات المنتشرة على ساحل الشمس ..فتتمتع بالمناظر الجميلة في وتشاهد الآثار العربية التي تطالعك بها كل مدينة جنوبية في إسبانيا فتعيش أياما مشدودا إلى ماضيك التليد..في كل بقعة ، وتحت كل شجرة ، وحيال كل صخرة ن وحي ومنحى، وفي السهول والروابي والمرتفعات والأودية .,
أقول رغم كل ما تقدم تبقى ملقه غير صالحة لعشاق السهر الطويل ..فمعظم سكانها وروادها من أصحاب الأعمال، مما يترتب معه الاستيقاظ المبكر .. وتمركز السياح والطلاب الاستجمام بعيدا عن الضجيج قرب الشواطئ المعدة للسياحة وفي الشاليهات ن والفنادق الواقعة على ضفاف البحر ، والصخب ليلا بين مياه ومروج وحسان.
كما لا يغرب عن البال أن لملقه مكانة تاريخية وفنية ، من خلال أنها كانت في حقبة من تاريخها الميناء الرئيسي لمملكة غرناطة فأصابت ازدهار كبيرا وحولها جرت منافسات وصراعات، وهي تحفة فنية، من خلال حي الصبة العربي المتميز بقلاعه المغربية ، وانتماء أشهر رسام معاصر في العالم لها ألا وهو (بيكاسو)، ومما يحسن ذكره في هذا المجال أن الأندلس التي أنجبت في الماضي عباقرة الفكر، العلم، والفن، والشعر ، والفلسفة ، أمثال : ابن زهر .. ابن رشد ، ابن حزم .. وابن زيدون وابن عربي .. وابن حيان.. وزرياب .. أنجبت الموسيقي الغرناطي العظيم والمفكر المبدع (سنيكا) مقتبس (فيدرا ) و(أوديب) ، والشاعر الكبير (فلوكان)،
والملاحظ أيضا أو على الأقل ما أشعر به أن أفضل ما في اسبانيا جنوبها رغم ما يقال عن تقدم الشمال حضاريا عليه وبغض النظر عن العاطفة التي تشدنا نحوه نحن العرب.. نجد أن أجزاء الديار الباردة الجنوبية أجمل مناطقها على الأغلب ..فجنوبي فرنسا على الشاطئ اللازوردي (الكوت دازور)، لا أظن أحدا ينكر تميزه على بقية الأجزاء الفرنسية ..وكذلك الحال في إسبانيا ..ولعل النقاد الذين اخذوا على (رامي ) تغزله بنسمة الجنوب التي يغار على حبيبته منها .. لعلهم لم يجربوا مثله مداعبات النسائم الجنوبية المنعشة في إسبانيا وفرنسا ..فأخذوا عليه مأخذ عيه أهل الديار الحارة التي تنعشهم رياح الشمال ، وتصدعهم رياح الجنوب ..ويحق لهم ذلك لأن المناطق الشمالية ,إن لم تكن هذه قاعدة ثابتة في كل الديار الحارة ــ فهي غالباً على كل حال ، ولكن الشعر شعور قبل كل شيء يهز أعماق الشاعر نحو لحظة حلوة ، وخلوة قبل كل شيء مع الطبيعة تأملية ..فيروح سابرا مواضع الجمال ودوافع الإبداع فتتردد بذلك أصداء نفسه الشفافة بأرق العبارات وأشرق الصور ..ويحتمل أن شاعرنا الذي عاش مدة من شبابه في فرنسا فذاق طعم الحياة الجنوبية زار أيضا إسبانيا القريبة منها ..ففتنته أندلسها فردد شعرا ضجت به أحاسيسه المشدودة لنسمات أندلسية ، أشم فيها رائحة قوم صدروا العلم والحضارة ، وغمروا الدنيا بسيل من المعارف والعلوم والفنون.
والملاحظة الثانية التي يشعر بها زائر إسبانيا رخصها النسبي .. ولا يبدوا لي أن هذا الرخص ينسحب على الإسبانيين رغم شعور السائح بأن البضائع في متاجرها في متناول يده بأثمان مناسبة ..وبأن تعريفة المأكولات والفنادق والمواصلات غير غالية إذا ما قورنت بغيرها كسويسرا وفرنسا والسويد وإنجلترا مثلا، وعلى الأصح بدول شمال وغرب أوربا ..وقد يكون مرجع ذلك العملة الإسبانية (البيسته)المنخفضة ، إلا أن ذلك لا ينطبق ــ كما قلنا ــ على المقيمين الذين يشكون من التضخم العالمي .. ويحتمل أن انخفاض عملتهم زاد متاعبهم المادية .,
وهناك أيضاً ملاحظة آخري لفتت نظري في مطاري ملقه ومدريد ، فأسماء طائرات الخطوط الجوية الأيبيرية كل واحدة منها تحمل اسما من أسماء المدن الإسبانية تعرف به ..فهذه الطائرة اسمها غرناطة وأخرى ملقه.. وتلك برشلونة وهذه قرطبة ..وهكذا ــ وإن لم تخني الذاكرة ــ فإن الخطوط الجوية العربية السعودية كانت في الماضي تعرف طائراتها بأسماء مدن عديدة في المملكة ولا أدري لماذا تخلت السعودية عن هذا التقليد اللطيف ــ لاسيما ــ بعد أن تطور أسطولنا الجوي ..وبلغت طائرته ما لم تبلغه أعداد طائرات أية دولة عربية أخرى ..وصارت المؤسسة تملك أضخم الطائرات العملاقة وأفخرها .. تقوم برحلات لمعظم القارات مما يتيح لقراءة اسم الطائرة في آسيا ، وأفريقيا، وأوربا ، .. فتكون عبارة عن دعاية وتعريف؟,
وأجمل ما في أسبانيا طقسها ــ خاصة ــ في جزئها الجنوبي .. فهو معتدل يميل بالنسبة لسكان الديار الحارة للبرودة ، ولكنه بالنسبة للأوربي كما يبدوا للحرارة ..وعموما المكيفات منتشر استعمالها : في الفنادق والمطاعم والمتاجر الكبيرة.. وفي الغالب مستقر لا يتقلب كثيرا كما في إنجلترا ، أو سويسرا ، وغيرهما ...حيث لا يستطيع الإنسان أن يثبت على لباس معين ... فمرة خفيف ، وأخرى ثقيل ، وفجأة تمطر والنشرات الجوية الثقة فيها ليست مطلقة ..حتى نكون على بينة من طقس اليوم القادم.
المهم أننا في صباح اليوم التالي الذي قضيناه في ملقه وقفنا بالفندق بمن استطعنا التفاهم معه بالإنجليزية .. وحجزنا للغد في رحلة اشبيلية ..وقرطبة مدتها يومان فلما حان الموعد وكان في السادسة صباحا فوجئنا بالحافلة الضخمة التي توقفت أمام فندقنا خالية من الركاب، فاعتقدنا إن هذا سوء حظ سيلازمنا في هذه الرحلة .. فنحن أو الركاب ، وحتما سنكون في العودة آخرهم .. ففي الصباح اضطررنا للاستيقاظ المبكر جدا بعد يوم لم نسترح خلاله رغبة في التعرف.
حي القصبة في ملقه
على معالم المدينة وشوارعها وأسواقها ، سوى بضع ساعات لم تكن كافية لإعطاء أجسادنا ما يكفيها من النوم .. وكما استأنا من ذلك خوفا من الإرهاق لطول مسافة الطريق ، والقيام باكرا ــ سيما ــ وبصحبتنا طفل لم يكن عمره قد جاوز السادسة بعد ..فقد سرنا عندما دخلنا الحافلة التي وجدناها مزودة بجميع وسائل الراحة .. فالمقاعد واسعة ووثيرة ، والمسافات بينهما تسمح بالتحرك دون إزعاج من حولك ، وشكل السيارة ونظافتها وديكورها الداخلي مريح للبصر ، وتكييف الهواء يعمل جيدا وتستطيع أن تجعله على الرقم الذي تشاء ... والقيادة كانت هادئة بعثت في نفوسنا الاطمئنان .. وقد تضاعف سرورنا ــ فيما بعد ــ لأننا رأينا من المنتجعات ، والأنحاء ، والقرى ، والشواطئ المحيطة بملقه أثناء تجوال الحافلة .. لالتقاط رفاق الرحلة الحاجزين من فنادقهم ، وشققهم ، وشاليهاتهم ، وفيلاتهم ما لا يمكن أن نراه لو لم نكن أول الراكبين ..فطوال ساعتين كاملتين بالإضافة إلى الساعات الخمس التي استغرقتها المسافة إلى اشبيلية ، لم نشعر بالملل أو ينتابنا التعب .. بل سهرنا حسب ما هو مخطط حتى منتصف الليل بعد وصولنا اشبيلية في حفلة رقص شعبي ، مما تشتهر به المدينة ، ويعد من معالمها المميزة ..ذهبنا بعدها رأسا إلى غرف نومنا ، بعد أن أخذنا منا التعب الشديد ، مما جعلنا نحس بلذة الراحة وطعم النوم .
قطعنا المسافة من مكان انطلاقنا حتى اشبيلية دون إحساس بالسام ، ودون أن يغالب أجفاننا النعاس رغم سعة المقاعد المغرية بالنوم والتعب الذي أصابنا في اليوم السابق وذلك لأننا بشوق لرؤية الجديد، وعدم تفويت منظر رائع علينا ويالها حقا من مناظر ساحرة تأخذ الألباب ، للحد الذي معه نسينا متاعبنا ، وما عدنا نفكر بهمومنا أو نتحدث بغير ما نشاهده فتمتعنا أيما متعة عبر ساحل الشمس الممتد مسافة ليست قصيرة والمعروف بالإسبانية (كوستاديل سول ) وبالمناسبة ففي أسبانيا أعد ثلاثة شطان للسياحة والاصطياف ، و الاستجمام فبالإضافة إلى ما سبق ذكره في جنوبها ، هناك في وسطها ساحل (كوستابلانكا) فشاهدنا على جانبي هذا الشاطئ البلاجات الفسيحة والفيلات الأنيقة ، والمنتجعات المتناثرة .. وعلى مد البصر المروج الخضراء والحدائق الغناء ، ومن مدينة صغيرة إلى قرية ريفية .. وكما مررنا بالسهول وسرنا على الفيافي، فقد صعدنا الجبال وانحدرنا للوديان .. وبين هذا وذاك تجري الانهار ، وتتدفق الشلالات وتفيض الينابيع بمحاذاة البحر والأشجار السامقة كأنها تحمينا عندما تشرق الشمس وتبتعد عنا وعينها علينا مصوبة حين تغيب ، فيسر بتساقط الرذاذ، وهو يغيث الأرض وتبتسم له الورود.
هاهنا كان أسلافنا يبدعون .. ومن هنا تفتحت مواهبهم فتعملقوا ، حتى صاروا حديث الدينا، فامتد جسر ثقافتهم الذي عبر عليه رواد النهضة الأوربية فعرف العالم فضلهم وشهد لهم العدو والصديق بالأسبقية حينما محضوا البشرية ما ساعدها على مسيرتها نحو الرقي .. فكانت سرجهم النور الذي اهتدت به سبل الخلاص من أوضار التأخر والتحرر من ربقة عصور الظلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق