



مأساة سقوط غرناطة ــ الحمراء ــ حسناء ــ يصعق حسنها ويأسر جمالها ــ سر تواجد الغجر في غرناطة
فقت الحسان بحلتي وتاجي ***فهوت إلى الشهب في الأبراج
نقوش قصر الحمراء وحكايات الحب والبطولة ــ بعد مشاهدة الحمراء اعتذر الكثيرون عن زيارة الكنيسة .
مأساة سقوط غرناطة ، ونواح أبي عبدالله على ضياع ملكه وحسرته الأخيرة على سقوط قرية (البذول ) في أعلى مرقب من جبال ( البشرات) المطلة على المدينة الرائعة مودعها أيام صباه ، وسنوات عزه وخذلانه ، ومتحسرا على مروجها النضيرة ، قصر الحمراء العظيم بمنائره العالية وبساتينه الخلابة وقول أمه (عائشة ) عندم ِأجهش بالبكاء
" أبك يا بني كالنساء على ملك أضعته ولم تحافظ عليه كالرجال وقد بكي حتى جفت دموعه ، وبعد أن روت دموعه البقع التي وقف عليها حتى سميت"آخر حسرات العربي " عبر إلى إفريقيا من العدوة ، وعاش حالا أقرب ما تكون إلى أحوال المتسولين ، فقد ندم ندما شديدا على أفعاله المشينة بحق شعبه ، ودينه ، حين تعاون مع النصارى ضد أبيه ، وعمه ، والمسلمين ، فحاول التكفير عن ذنوبه ونظر نفسه للجهاد فا ستشهد ، ولكنه ضيع تصرفاته أمة ، وأذل قوما.
هذا ولعله من المفيد أن نتوقف عند تاريخ غرناطة قليلا لأنها لو قيض الله لها حاكما في سنة سقوطها غير أبي عبدالله ولو أنجد المسلمون في مصر وتركيا بقايا إخوانهم في الأندلس لتغير وجه التاريخ الاسباني ، ولما توالت النكبات بعد استسلام أبي عبدالله " 897هــ -1491م " فدخلها النصارى فرحين ، ولصلواتهم مرتلين ، والعيون العربية تنظر إليهم باكية وقد تملك القلوب جزع وفزع.
إنه لو لم يسرف في التعاون مع أعدائه النصارى ويستنجد بهم على خصومه من المسلمين ، لبقيت ــ على الأقل أجزاء من الأندلس حتى الآن مسلمة ، ولما منع التحدث بلغة القرآن أو تنصر قسرا في كل يوم ثلاثة آلاف من المسلمين .
هكذا يبدو منظر مدينة الحمراء ومن خلفها جبال سيرانيفادا
ولما وجد الكردينال:" شمينيش" البغيض وسيلة لدى الملكة ، حين يوسوس إليها بأن بقاء المسلمين خيانة بعهد الله ، وأقنعها بضرورة القمع حتى يعود المرتدون إلى دين أسلافهم
إن رعونة أبي عبدالله سببت كارثة للعلم ، وعصارات الفكر حين عمد البغيض إلى حرق المخطوطات النادرة والكتابات النفيسة . ورغم الاضطهاد والتنكيل بالمسملين فإن ثوراتهم في وجه الطغيان قامت ولكن ما من معين أو منجد فخمدت بعد أن تفرقوا ، بين فار وقتيل ، ومتظاهر بما لا يؤمن به وكيف لا يستسلم قوم عُزل ، لا حول لهم ولا قوة حيال بطش لم يشهد التاريخ له مثيل وحكومة كما يكون" ستانلي لين بول" " لم ترع عهودها التي واثقت عليها عند تسليم غرناطة ولكن حكام اسبانيا لم يكونوا حازمين ولم يكونوا أمناء في معاملة العرب فقد أكرهوهم على أن يخلعوا أزيائهم الوطنية الجميلة ليستبدلوا بها قبعات النصارى وسراويلهم وعلى أن يهجروا سنة الغسل والاستحمام، اقتداء بغالبيتهم في الصبر على تراكم الاقذار ، ثم ينبذوا لغتهم وعاداتهم وأسمائهم ، وأن يتكلموا بالإسبانية ، ويعملوا كما يعمل الأسبان يغيروا أسماؤهم بأسماء اسبانية " .
في الطريق إلى غرناطة التي طالما تمنيت زيارتها وتشوقت للكتابة عنها ، والتي لا أخال أن المرء يمل مشاهدتها لأنها زهرة سماوية على الأرض لا تذبل دائمة الأريج والنوار وظلت وفية باحتفاظها بذكرى أعظم أمة حلت بها ن في الطريق إليها .. تخيلت سخرية القدر بملك مخبول حاسد مقهور ما سمعت دليلا إلا ذمة " كشارل الخامس" الذي حسب أن تحويله جامع قرطبة إلى كنيسة ــ فصلت عنه مؤخرا ــ سيزيل أثرا حضاريا شامخا ، أو هدمه جناح من أجنحة قصر الحمراء وإضافة أبنية بجوارها حتى بدت أمامه كمن يطلب الخلاص من المأزق الذي وضعه بها صانعها ، فازدادت الحمرا عزة وشموخا ، وظلت شاهدا على عبقرية أمه فاقت الأمم كما تفوقت مدينة الحمراء الذي توهم المأفون أنه بإزالته بيت الشعر سقلل من قيمتها ن فصارت كما قال الشاعر على لسانها :
فقت الحسان بحلتي وبتاجي *** فهوت إلى الشهب في الأبراج
هذا البيت الذي محاه الملك المجنون ن سجل عارا على عارات عدة في جبين أوربا التي تجمع ابنتهما حول قاعتين عظيمتي الحجم ، وفي غاية الروعة همها: قاعة الريحان لكثرة ما بها من الريحان .. وأحيانا يسمونها قاعة البركة ، والأخرى قاعة السباع ، وهذه تحفه فنية يندر وجود مثيل لها ببركتها التي تتوسطها نافورة مرمرية حولها اثنا عشر أسداً يتدفق من أفواهها ، وبهوها القائم أعمة مرمية ، بلغ تنظيمها وتنسيقها وتصفيفها مبلغاً لا يمكن وصفه ، وهناك أيضاً نقوش في أسقف الحمراء تعتبر ملاحم حب وشجاعة ، وروايات مجد وشهامة ، وحكايات فن وصور سحر وجمال.
ومن شرفة قاعة العدل الفسيحة .. طلب منا الدليل أن نطل ، فرأينا تحتنا أكواخاً حقيرة .. قال إن الغجر يقطنونها وزيادة في الإيضاح قص علينا قصة قدومهم لإسبانيا موجزة بالتالي: ــ
" قد تتعجبون كيف أتي الغجر إلى هنا ، وهم ليسوا إسبانا ، فهم هنود في الأصل تفرقوا في شتى أرجاء الأرض ، وتجمعوا بشكل ملحوظ في مدينة غرناطة ، ولونهم شديد السمرة ، وعددهم اليوم في غرناطة وحدها يتجاوز الألفين ، جاء بهم إليها الملكان الكاثوليكيان " إيزابيل، وفرديناند " وكانوا يصنعون الأسلحة للمحاربين " .
" أما ماذا يعملون اليوم ؟ فالمفاجأة .. أنهم لا يعملون شيئاً أنهم بالنصب والاحتيال لا يجارون ، ومن الرقص والغناء لا يملون ، والراحة والمرح يعشقون " .
طبعاً ، رقصهم وغناؤهم من ورائه يكسبون ، فكثير من السياح يتجه نحو أكواخهم وكهوفهم ويجلس بينهم منشرحاً ، بما يقدمون أمامه .. ولكن ويلا لمن يغفل عن نفسه منهم ، فهم لا يؤمنون ، وهذه عادة في كل الغجر في أي مكان من العالم ، ورغم أننا لم نشاهدهم إلا من بعيد ، فقد انطلت علي حيلة غجرية في أحد شوارع غرناطة حين عرضت مجموعة حاجات تمتاز بها المدينة ، فوددتُُ أن أبتاع منها شيئاً كتذكار ، وقد فعلت فاشتريت بمبلغ مائتي بيستة ، وحيث لم أكن أملك من القطع الورقية الأسبانية أصغر من خمسمائة ، أعطيت البائعة ورقة من هذه الفئة منتظراً البقية .. غير أن الغجرية ، ومن غير أن أشعر اختفت بسرعة البرق عن بصري ، ولما لاحظ المشرف وقفتي المرتبكة .. تقدم نحوي وسألني ، فحكيت له ما حدث . فضحك وقال : " المفروض أن أنبهكم ، على كل أنا متأسف " فاستعضت بالله ولحقت بالمجموعة ، وحمدته أن المبلغ لم يكن كبيراً ".
إن دارس التاريخ الإسلامي يعرف ثورة " الزط" التي أخدمها " المعتصم " وكانت من أصعب الثورات التي واجهها في فترة حكمة ، هؤلاء الذين وفدوا للعالم العربي إبان خلافته ، وانتشروا في الشرق والغرب باسم الغجر أو النور ، واستعملهم بعض الملوك والأمراء وكبار القادة والزعماء في صنع آلات الحروب في القرون الماضية.
فرغنا من قاعة القضاء .. وانتقلنا بعدها إلى قاعة كبار الضيوف والسفراء والرسل ن فإذا بها آية في الجمال ، وفر شرفتها الرحبة شاهدنا مناظر سهل " حدرو" الخلابة ، وعند النزر إلى هذا السهل الذي يبعث مشهدة في النفس نشوة وسعادة تذكرت ما قاله شارل الخامس عندما وقف على نافذة هذه القاعة : " إن من يضيع هذا ليعتبر أكثر الناس تعاسة ، وأشقاهم على وجه البسيطة " .
وهذا ما فعله الشقي .. أبو عبدالله محمد بن أبي الحسن الذي عق أباه البطل ، وتعاون مع أعدائه النصاري ، ووقف ضد عمه الفارس المغوار الذي ضرب مثلاً في الدفاع عن إسلامه وعروبته ، وصد عن نصيحة العقلاء من أشراف قومه ، وخان أمته ، وأفسد حال وطنه ، فضيع ملكا ، وأجهز علي كيان للإسلام في أوربا .
في غرفة النوم الرئيسية بالقصر .. تأخذ الدهشة الزائر حين يرى أرضيتها المرصوفة بالمرمر الخالص .. تتخلله شقوق يقال أن روائح الطيب الممتاز ،
والبخور النادر ينبعث منها الشذاء معطراً الأرجاء ، ومن نوافذها تمتد مروج فيحاء ، وحدائق غناء ، وبساتين " ليندا راجا " الحافلة بأنواع من الثمر يستحيل حصره .
وهناك حمامات الحمراء التي ينساب منها الماء بخرير منسجم ، وكأنها تسيل بإيقاع تزيده الصخور المرمرية ، روعة ، والسقوف الزجاجية بهجة . وصور النجوم والورود التي ينفذ منها السفر مضفياً بهاء وحبورا ، ومن بهو السباع خرجنا إلى ساحة سراج وزراء بني نصر ، الذي شاء سوء طالعهم أن يغصب عليهم السلطان فيجزرهم فيها .
وبإحدى غرف قصر مدينة الحمراء الذي كان أيضاً يقوم مقام قلعة حصينة لسلاطين وأمراء غرناطة .. ومن ضمن الغرف العديدة التي يحفل بها القصر الفاخر .. رأينا ما شد انتباهنا في سقفها المبني على شكل عنكبوت ، فاستعديت لسؤال الدليل ولكنه سبقني قائلاً: " هذا السقف لابد أنكم لاحظتم أنه على شكل عنكبوت " ، وأخذ يقص علينا قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، وكيف أنه اختفى عن العداء في غار، وأنهم نووا دخول الغار الذي يختبئ به عليه أفضل الصلوات والتسليم ، وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه ، ولكنهم عدلوا عندما رأوا أن العنكبوت قد بنا له على باب الغار بيتا فسلم وصاحبه من أذى المعتدين .
قال: " هذه استوحاها الأمير .. فأمر المهندسين بتسجيلها لتكون دليلاً على الإعجاز الذي أتى به الني محمد صلى الله عليه وسلم " .
وأخذنا بعد ذلك نطوف في أرجاء القصر وساحاته ، ممتعين انظارنا ونفوسنا بالفن المعماري النادر ، في رفعته .. فإذا بنا في ساحة الأختين ، ومنها ذهبنا إلى برج قمارش ، ومن ثم إلى المسجد الأصغر ويدعى أيضاً "مزكيتا" .
وهكذا .. من مكان لمكان مما لا يتسع لذكره المقام ، ومما يشهد أن مجموعة أبنية الحمراء غاية في الروعة وقمة فظلت شاهدة على سمو في الفكر، حتى أصبحت مزرارا لملايين الناس من شتى الأصقاع .
إن الطائف في الحمراء .. لا يمل قط ، فالمفاجآت تترى ، وكل ما يشده منظر أو عمل فني بديع يطالعه حين ينتقل إلى العديدة ، وحدائقها ، ورياضها ، والكثير مما لا يحصره عد أو يعبر عنه قلم ، وفي كل ذلك لا تفارق أنفه الروائح الزكية ، ومما يلفت النظر في الحمراء شعار بني الأحمر المزدانة به حيطان وجدران قصرها العظيم ، والذي لا يفارق العيون طوال مدة التجوال في القصر ، ويا لجمال الخط الذي كتب به هذا الشعار .
(( لا غالب إلا الله ))
سبحانه وتعالى وجلت قدرته ، وعلا شأنه ، فهذه الدنيا دول من شاء عزه ومن شاء ذله ، ومن لا يرعى نعمه عاقبة ، وقد أراد أن يجعل من أبي عبد الله عبرة لمن تسول له نفسه للخيانة والعقوق ، فأشقاه وجعله بغيضاً يكرهه قومه وينفر منه أقر أهله.
استمر تجوالنا في الحمراء ، فعقدت الدهشة ألسنتنا ، وبتنا مسمرين أمام جمال كل ركن وزاوية وغرفة وساحة وبركة.
إنه جمال أخاذ يسلب الألباب .. جمال بعثه الذوق العربي الرفيع ، والعبقرية الإسلامية الفريدة ، جمال انطلق بعفوية امتاز بها الإنسان العربي الذي قدس القرآن الكريم لغته ، وهذبت الشريعة مسلكه ، فرفع راية التوحيد والجهاد ، ونهض بقوة رقيقة ، وهمة عظيمة ، ليساعد المستضعفين ويخلص المظلومين ، فرفع الجور بفضل إيمانه بالدين الحنيف.
وفي الحمراء .. حانوت متخصص بصنع الأواني الخشبية ، المستوحاة أشكالها ونقوشها وزينتها من غرف وقاعات وأسقف قصر الحمراء ، ومنه يستطيع المرء أن يشتري ما يشاء من هذه التحف البديعة ـــ وإن لم يكن يستطيع حمل ما ابتاعه ــ فإن المسؤول عن المحل يتكفل بشحنها للشاري إلى عنوانه أينما يكون .. ولا يدفع زيادة على السعر المقرر سوى 5% فقط نظير أجرة الشحن.
ولقد ابتعت صينية متوسطة الحجم فضلت حملها ، مما عرضني لتعب شديد ، وجعل زوجتي وطفلها يتخلفان إتمام الجولة ، فندمت على التوفير الذي لا يساوي نصف ما تجشمته من مشقة أثناء التطواف في حدائق الحمراء.
ولكن ، قبل أن نتحدث عن حدائق الحمراء التي تأخذ بمجامع القلوب .. وتأسر النفوس روعتها .. سنلقي نظرة على " جنة العريف Generafere " القصر الذي تجلت عظمته من خلال بساطته التي يظهر فيه الأسلوب الشرقي واضحاً ، رغم ما فعله الدهر والإنسان به ، وما أفسده الجهل والصناع، فظل نضراً رغم تشويهه ، وجميلاً رغم محاولات تغييره .
وأخيراً .. زرنا الحدائق .. وخير ما يستحق الحديث منها .. الحديقة العربية التي بدت واسطة العقد ، حيث وقفنا أمامها طويلاً مشدوهين ، فأخذ الدليل يتحدث عنها وكأنه ينشد شعراً عن تنظيمها ، وتنسيقها ، وشكلها ، وفجأة .. التفت نحو شمطاء إنجليزية كانت تقف بمحاذاته رآها مشدوهة وسألها ما رأيك في تغيير شكل الحديقة منزلك إلى هذا الشكل الجذاب، تأفقت الحيزبون مشيرة بعصبية وتقزز بعدم الموافقة فكدت أصرخ بوجهها لولا الحياء ومراعاة الأداب العامة.
غرناطة عربية رغم أعجميتها، ودرة تشوييها وأميرة شامخة رغم اضطهادها.
غرناطة قرون سبعة ـ شعر نزار قباني ـ في تينك العينين، بعد رقاد
وأمية … رايتها مرفوعة.
وحيادها موصولة بجياد.
ما أغرب التاريخ كيف أعادني لحفيدة سمراء
من أحفادي
وجه دمشقي رأيت خلاله أجفان بلقيس وجيد سعاد ورأيت منزلهم القديم ودمشق أين تكون؟ قلت ترينها في شعرك المناسب نهر السواد مازال مختزناً شموس بلادي، في طيب جنات العريف، ومائها في الفل في الريحان في الكباد.
وفي عودتنا كان يصحبنا أحد المصورين التقط صورا لنا بالحمراء دون علمنا فجاءت طبيعته، وعلى طريق العودة بدأت أستمتع بما نمر عليه من المناظر الخلابة والقرى الجميلة، ولاحظت أعلى قمم جبال إسبانيا متوجه جبال سيرانيفادا.
فقت الحسان بحلتي وتاجي ***فهوت إلى الشهب في الأبراج
نقوش قصر الحمراء وحكايات الحب والبطولة ــ بعد مشاهدة الحمراء اعتذر الكثيرون عن زيارة الكنيسة .
مأساة سقوط غرناطة ، ونواح أبي عبدالله على ضياع ملكه وحسرته الأخيرة على سقوط قرية (البذول ) في أعلى مرقب من جبال ( البشرات) المطلة على المدينة الرائعة مودعها أيام صباه ، وسنوات عزه وخذلانه ، ومتحسرا على مروجها النضيرة ، قصر الحمراء العظيم بمنائره العالية وبساتينه الخلابة وقول أمه (عائشة ) عندم ِأجهش بالبكاء
" أبك يا بني كالنساء على ملك أضعته ولم تحافظ عليه كالرجال وقد بكي حتى جفت دموعه ، وبعد أن روت دموعه البقع التي وقف عليها حتى سميت"آخر حسرات العربي " عبر إلى إفريقيا من العدوة ، وعاش حالا أقرب ما تكون إلى أحوال المتسولين ، فقد ندم ندما شديدا على أفعاله المشينة بحق شعبه ، ودينه ، حين تعاون مع النصارى ضد أبيه ، وعمه ، والمسلمين ، فحاول التكفير عن ذنوبه ونظر نفسه للجهاد فا ستشهد ، ولكنه ضيع تصرفاته أمة ، وأذل قوما.
هذا ولعله من المفيد أن نتوقف عند تاريخ غرناطة قليلا لأنها لو قيض الله لها حاكما في سنة سقوطها غير أبي عبدالله ولو أنجد المسلمون في مصر وتركيا بقايا إخوانهم في الأندلس لتغير وجه التاريخ الاسباني ، ولما توالت النكبات بعد استسلام أبي عبدالله " 897هــ -1491م " فدخلها النصارى فرحين ، ولصلواتهم مرتلين ، والعيون العربية تنظر إليهم باكية وقد تملك القلوب جزع وفزع.
إنه لو لم يسرف في التعاون مع أعدائه النصارى ويستنجد بهم على خصومه من المسلمين ، لبقيت ــ على الأقل أجزاء من الأندلس حتى الآن مسلمة ، ولما منع التحدث بلغة القرآن أو تنصر قسرا في كل يوم ثلاثة آلاف من المسلمين .
هكذا يبدو منظر مدينة الحمراء ومن خلفها جبال سيرانيفادا
ولما وجد الكردينال:" شمينيش" البغيض وسيلة لدى الملكة ، حين يوسوس إليها بأن بقاء المسلمين خيانة بعهد الله ، وأقنعها بضرورة القمع حتى يعود المرتدون إلى دين أسلافهم
إن رعونة أبي عبدالله سببت كارثة للعلم ، وعصارات الفكر حين عمد البغيض إلى حرق المخطوطات النادرة والكتابات النفيسة . ورغم الاضطهاد والتنكيل بالمسملين فإن ثوراتهم في وجه الطغيان قامت ولكن ما من معين أو منجد فخمدت بعد أن تفرقوا ، بين فار وقتيل ، ومتظاهر بما لا يؤمن به وكيف لا يستسلم قوم عُزل ، لا حول لهم ولا قوة حيال بطش لم يشهد التاريخ له مثيل وحكومة كما يكون" ستانلي لين بول" " لم ترع عهودها التي واثقت عليها عند تسليم غرناطة ولكن حكام اسبانيا لم يكونوا حازمين ولم يكونوا أمناء في معاملة العرب فقد أكرهوهم على أن يخلعوا أزيائهم الوطنية الجميلة ليستبدلوا بها قبعات النصارى وسراويلهم وعلى أن يهجروا سنة الغسل والاستحمام، اقتداء بغالبيتهم في الصبر على تراكم الاقذار ، ثم ينبذوا لغتهم وعاداتهم وأسمائهم ، وأن يتكلموا بالإسبانية ، ويعملوا كما يعمل الأسبان يغيروا أسماؤهم بأسماء اسبانية " .
في الطريق إلى غرناطة التي طالما تمنيت زيارتها وتشوقت للكتابة عنها ، والتي لا أخال أن المرء يمل مشاهدتها لأنها زهرة سماوية على الأرض لا تذبل دائمة الأريج والنوار وظلت وفية باحتفاظها بذكرى أعظم أمة حلت بها ن في الطريق إليها .. تخيلت سخرية القدر بملك مخبول حاسد مقهور ما سمعت دليلا إلا ذمة " كشارل الخامس" الذي حسب أن تحويله جامع قرطبة إلى كنيسة ــ فصلت عنه مؤخرا ــ سيزيل أثرا حضاريا شامخا ، أو هدمه جناح من أجنحة قصر الحمراء وإضافة أبنية بجوارها حتى بدت أمامه كمن يطلب الخلاص من المأزق الذي وضعه بها صانعها ، فازدادت الحمرا عزة وشموخا ، وظلت شاهدا على عبقرية أمه فاقت الأمم كما تفوقت مدينة الحمراء الذي توهم المأفون أنه بإزالته بيت الشعر سقلل من قيمتها ن فصارت كما قال الشاعر على لسانها :
فقت الحسان بحلتي وبتاجي *** فهوت إلى الشهب في الأبراج
هذا البيت الذي محاه الملك المجنون ن سجل عارا على عارات عدة في جبين أوربا التي تجمع ابنتهما حول قاعتين عظيمتي الحجم ، وفي غاية الروعة همها: قاعة الريحان لكثرة ما بها من الريحان .. وأحيانا يسمونها قاعة البركة ، والأخرى قاعة السباع ، وهذه تحفه فنية يندر وجود مثيل لها ببركتها التي تتوسطها نافورة مرمرية حولها اثنا عشر أسداً يتدفق من أفواهها ، وبهوها القائم أعمة مرمية ، بلغ تنظيمها وتنسيقها وتصفيفها مبلغاً لا يمكن وصفه ، وهناك أيضاً نقوش في أسقف الحمراء تعتبر ملاحم حب وشجاعة ، وروايات مجد وشهامة ، وحكايات فن وصور سحر وجمال.
ومن شرفة قاعة العدل الفسيحة .. طلب منا الدليل أن نطل ، فرأينا تحتنا أكواخاً حقيرة .. قال إن الغجر يقطنونها وزيادة في الإيضاح قص علينا قصة قدومهم لإسبانيا موجزة بالتالي: ــ
" قد تتعجبون كيف أتي الغجر إلى هنا ، وهم ليسوا إسبانا ، فهم هنود في الأصل تفرقوا في شتى أرجاء الأرض ، وتجمعوا بشكل ملحوظ في مدينة غرناطة ، ولونهم شديد السمرة ، وعددهم اليوم في غرناطة وحدها يتجاوز الألفين ، جاء بهم إليها الملكان الكاثوليكيان " إيزابيل، وفرديناند " وكانوا يصنعون الأسلحة للمحاربين " .
" أما ماذا يعملون اليوم ؟ فالمفاجأة .. أنهم لا يعملون شيئاً أنهم بالنصب والاحتيال لا يجارون ، ومن الرقص والغناء لا يملون ، والراحة والمرح يعشقون " .
طبعاً ، رقصهم وغناؤهم من ورائه يكسبون ، فكثير من السياح يتجه نحو أكواخهم وكهوفهم ويجلس بينهم منشرحاً ، بما يقدمون أمامه .. ولكن ويلا لمن يغفل عن نفسه منهم ، فهم لا يؤمنون ، وهذه عادة في كل الغجر في أي مكان من العالم ، ورغم أننا لم نشاهدهم إلا من بعيد ، فقد انطلت علي حيلة غجرية في أحد شوارع غرناطة حين عرضت مجموعة حاجات تمتاز بها المدينة ، فوددتُُ أن أبتاع منها شيئاً كتذكار ، وقد فعلت فاشتريت بمبلغ مائتي بيستة ، وحيث لم أكن أملك من القطع الورقية الأسبانية أصغر من خمسمائة ، أعطيت البائعة ورقة من هذه الفئة منتظراً البقية .. غير أن الغجرية ، ومن غير أن أشعر اختفت بسرعة البرق عن بصري ، ولما لاحظ المشرف وقفتي المرتبكة .. تقدم نحوي وسألني ، فحكيت له ما حدث . فضحك وقال : " المفروض أن أنبهكم ، على كل أنا متأسف " فاستعضت بالله ولحقت بالمجموعة ، وحمدته أن المبلغ لم يكن كبيراً ".
إن دارس التاريخ الإسلامي يعرف ثورة " الزط" التي أخدمها " المعتصم " وكانت من أصعب الثورات التي واجهها في فترة حكمة ، هؤلاء الذين وفدوا للعالم العربي إبان خلافته ، وانتشروا في الشرق والغرب باسم الغجر أو النور ، واستعملهم بعض الملوك والأمراء وكبار القادة والزعماء في صنع آلات الحروب في القرون الماضية.
فرغنا من قاعة القضاء .. وانتقلنا بعدها إلى قاعة كبار الضيوف والسفراء والرسل ن فإذا بها آية في الجمال ، وفر شرفتها الرحبة شاهدنا مناظر سهل " حدرو" الخلابة ، وعند النزر إلى هذا السهل الذي يبعث مشهدة في النفس نشوة وسعادة تذكرت ما قاله شارل الخامس عندما وقف على نافذة هذه القاعة : " إن من يضيع هذا ليعتبر أكثر الناس تعاسة ، وأشقاهم على وجه البسيطة " .
وهذا ما فعله الشقي .. أبو عبدالله محمد بن أبي الحسن الذي عق أباه البطل ، وتعاون مع أعدائه النصاري ، ووقف ضد عمه الفارس المغوار الذي ضرب مثلاً في الدفاع عن إسلامه وعروبته ، وصد عن نصيحة العقلاء من أشراف قومه ، وخان أمته ، وأفسد حال وطنه ، فضيع ملكا ، وأجهز علي كيان للإسلام في أوربا .
في غرفة النوم الرئيسية بالقصر .. تأخذ الدهشة الزائر حين يرى أرضيتها المرصوفة بالمرمر الخالص .. تتخلله شقوق يقال أن روائح الطيب الممتاز ،
والبخور النادر ينبعث منها الشذاء معطراً الأرجاء ، ومن نوافذها تمتد مروج فيحاء ، وحدائق غناء ، وبساتين " ليندا راجا " الحافلة بأنواع من الثمر يستحيل حصره .
وهناك حمامات الحمراء التي ينساب منها الماء بخرير منسجم ، وكأنها تسيل بإيقاع تزيده الصخور المرمرية ، روعة ، والسقوف الزجاجية بهجة . وصور النجوم والورود التي ينفذ منها السفر مضفياً بهاء وحبورا ، ومن بهو السباع خرجنا إلى ساحة سراج وزراء بني نصر ، الذي شاء سوء طالعهم أن يغصب عليهم السلطان فيجزرهم فيها .
وبإحدى غرف قصر مدينة الحمراء الذي كان أيضاً يقوم مقام قلعة حصينة لسلاطين وأمراء غرناطة .. ومن ضمن الغرف العديدة التي يحفل بها القصر الفاخر .. رأينا ما شد انتباهنا في سقفها المبني على شكل عنكبوت ، فاستعديت لسؤال الدليل ولكنه سبقني قائلاً: " هذا السقف لابد أنكم لاحظتم أنه على شكل عنكبوت " ، وأخذ يقص علينا قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، وكيف أنه اختفى عن العداء في غار، وأنهم نووا دخول الغار الذي يختبئ به عليه أفضل الصلوات والتسليم ، وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه ، ولكنهم عدلوا عندما رأوا أن العنكبوت قد بنا له على باب الغار بيتا فسلم وصاحبه من أذى المعتدين .
قال: " هذه استوحاها الأمير .. فأمر المهندسين بتسجيلها لتكون دليلاً على الإعجاز الذي أتى به الني محمد صلى الله عليه وسلم " .
وأخذنا بعد ذلك نطوف في أرجاء القصر وساحاته ، ممتعين انظارنا ونفوسنا بالفن المعماري النادر ، في رفعته .. فإذا بنا في ساحة الأختين ، ومنها ذهبنا إلى برج قمارش ، ومن ثم إلى المسجد الأصغر ويدعى أيضاً "مزكيتا" .
وهكذا .. من مكان لمكان مما لا يتسع لذكره المقام ، ومما يشهد أن مجموعة أبنية الحمراء غاية في الروعة وقمة فظلت شاهدة على سمو في الفكر، حتى أصبحت مزرارا لملايين الناس من شتى الأصقاع .
إن الطائف في الحمراء .. لا يمل قط ، فالمفاجآت تترى ، وكل ما يشده منظر أو عمل فني بديع يطالعه حين ينتقل إلى العديدة ، وحدائقها ، ورياضها ، والكثير مما لا يحصره عد أو يعبر عنه قلم ، وفي كل ذلك لا تفارق أنفه الروائح الزكية ، ومما يلفت النظر في الحمراء شعار بني الأحمر المزدانة به حيطان وجدران قصرها العظيم ، والذي لا يفارق العيون طوال مدة التجوال في القصر ، ويا لجمال الخط الذي كتب به هذا الشعار .
(( لا غالب إلا الله ))
سبحانه وتعالى وجلت قدرته ، وعلا شأنه ، فهذه الدنيا دول من شاء عزه ومن شاء ذله ، ومن لا يرعى نعمه عاقبة ، وقد أراد أن يجعل من أبي عبد الله عبرة لمن تسول له نفسه للخيانة والعقوق ، فأشقاه وجعله بغيضاً يكرهه قومه وينفر منه أقر أهله.
استمر تجوالنا في الحمراء ، فعقدت الدهشة ألسنتنا ، وبتنا مسمرين أمام جمال كل ركن وزاوية وغرفة وساحة وبركة.
إنه جمال أخاذ يسلب الألباب .. جمال بعثه الذوق العربي الرفيع ، والعبقرية الإسلامية الفريدة ، جمال انطلق بعفوية امتاز بها الإنسان العربي الذي قدس القرآن الكريم لغته ، وهذبت الشريعة مسلكه ، فرفع راية التوحيد والجهاد ، ونهض بقوة رقيقة ، وهمة عظيمة ، ليساعد المستضعفين ويخلص المظلومين ، فرفع الجور بفضل إيمانه بالدين الحنيف.
وفي الحمراء .. حانوت متخصص بصنع الأواني الخشبية ، المستوحاة أشكالها ونقوشها وزينتها من غرف وقاعات وأسقف قصر الحمراء ، ومنه يستطيع المرء أن يشتري ما يشاء من هذه التحف البديعة ـــ وإن لم يكن يستطيع حمل ما ابتاعه ــ فإن المسؤول عن المحل يتكفل بشحنها للشاري إلى عنوانه أينما يكون .. ولا يدفع زيادة على السعر المقرر سوى 5% فقط نظير أجرة الشحن.
ولقد ابتعت صينية متوسطة الحجم فضلت حملها ، مما عرضني لتعب شديد ، وجعل زوجتي وطفلها يتخلفان إتمام الجولة ، فندمت على التوفير الذي لا يساوي نصف ما تجشمته من مشقة أثناء التطواف في حدائق الحمراء.
ولكن ، قبل أن نتحدث عن حدائق الحمراء التي تأخذ بمجامع القلوب .. وتأسر النفوس روعتها .. سنلقي نظرة على " جنة العريف Generafere " القصر الذي تجلت عظمته من خلال بساطته التي يظهر فيه الأسلوب الشرقي واضحاً ، رغم ما فعله الدهر والإنسان به ، وما أفسده الجهل والصناع، فظل نضراً رغم تشويهه ، وجميلاً رغم محاولات تغييره .
وأخيراً .. زرنا الحدائق .. وخير ما يستحق الحديث منها .. الحديقة العربية التي بدت واسطة العقد ، حيث وقفنا أمامها طويلاً مشدوهين ، فأخذ الدليل يتحدث عنها وكأنه ينشد شعراً عن تنظيمها ، وتنسيقها ، وشكلها ، وفجأة .. التفت نحو شمطاء إنجليزية كانت تقف بمحاذاته رآها مشدوهة وسألها ما رأيك في تغيير شكل الحديقة منزلك إلى هذا الشكل الجذاب، تأفقت الحيزبون مشيرة بعصبية وتقزز بعدم الموافقة فكدت أصرخ بوجهها لولا الحياء ومراعاة الأداب العامة.
غرناطة عربية رغم أعجميتها، ودرة تشوييها وأميرة شامخة رغم اضطهادها.
غرناطة قرون سبعة ـ شعر نزار قباني ـ في تينك العينين، بعد رقاد
وأمية … رايتها مرفوعة.
وحيادها موصولة بجياد.
ما أغرب التاريخ كيف أعادني لحفيدة سمراء
من أحفادي
وجه دمشقي رأيت خلاله أجفان بلقيس وجيد سعاد ورأيت منزلهم القديم ودمشق أين تكون؟ قلت ترينها في شعرك المناسب نهر السواد مازال مختزناً شموس بلادي، في طيب جنات العريف، ومائها في الفل في الريحان في الكباد.
وفي عودتنا كان يصحبنا أحد المصورين التقط صورا لنا بالحمراء دون علمنا فجاءت طبيعته، وعلى طريق العودة بدأت أستمتع بما نمر عليه من المناظر الخلابة والقرى الجميلة، ولاحظت أعلى قمم جبال إسبانيا متوجه جبال سيرانيفادا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق