

جامع قرطبة كان أول جامعة في العالم ــ إن العالم الحديث ارتوى من نبع حضارة العرب ــ الدار التي تسكنها عائلة أندلسية قديمة ــ ما يؤلم طغيان كلمة مور.
في الكتابة عن التاريخ العربي ، أحاول تجنب ذكر كلمة العصور الوسطى لكونه اصطلاحا يوحي بالظلام والتأخر ... والعرب إبان هذه القرون كانوا ينعمون برخاء وتقدم ويتمتعون بحرية لم تعرفها أمة من الأمم القديمة والوسطية .. وفي الوقت الذي كان الغرب فيه في أقصى درجات الانحطاط ، كان العالم الإسلامي في قمة ازدهاره المعنوي والمادي ولكن يبدو أن الاصطلاح شع فوقع فيه ــ عن حسن نية ـ كثيرون من كبار مؤرخي العرب ، ورغم أنهم يقولون : (خطأ شائع من صحيح مغمور ) فإني أرفض من حيث المبدأ ترويج الأخطاء والتشجيع على ارتكابها .. ولكني أجدها الآن مناسبة لعنوان ، وذلك ليس فقط لشيوع الاصطلاح حتى تتضح صورة التفوق الإسلامي على العالم المسيحي خلال هذه العصور ، ولا لأن ارتباط الحياة العربية في الأندلس بأوربا كان وثيقا سواء في الحرب أو في السلم ، ولأن العلاقات العسكرية والسياسية ن والثقافية والاقتصادية ، مع الممالك الأوربية في القرون الوسيطة لم تنقطع طيلة ثمانية قرون ، مما جعل ما ينطبق عليه في غرب العالم الإسلامي يغاير في بعض جوانبه ما ينطبق عليه في الشرق ، بل لأن الأندلس كانت نقطة الضوء الوحيدة في أوربا واستحدث أهلها أنماطا أثرت في الضوء الوحيدة تأثيرا بليغا في كثير من مناحي حياته.
ومما يؤلم العربي الذي يزور آثار قومه في أسبانيا، طغيان كلمة (مور ) على السنة الأجانب وتعني عرب شمال إفريقيا، ولا نعلم لماذا الإصرار على ترديد هذه الكلمة ، رغم بعدها عن الصحة والصواب حتى اشتهرت وصار بعض الناس ممن ليس لهم دراية بالتاريخ يظن أن المور غير العرب؟!.
إن هذا لا يجوز لأنه مغالطة فاضحة . وما نرجوه أن تنبه الأمة العربية الحكومة الإسبانية الصديقة والقريبة ، على هذه المفهوم الخاطئ الذي قصد من ورائه تشويه سمعة العرب ومسح ذكرهم فالإصرار على اللفظ من شأنه تضييع المجد العربي في اسبانيا ومن المعروف أيضا أن الإسلام جمع بين الأمم ولم يفرق بين الأجناس ، أو يمايز في ألوان الناس فهم سواء ، والأفضلية عمادها التقوى والعمل الصالح وكما أن كثيرا من أهل المغرب يعودون بأصلهم إلى المشرق ففيهم من أخلص للإسلام وضحى في سبيله. وكما أن الخليفة الوليد بن عبد الملك أمر بالفتح ، وموسى بن نصير خطط له فطارق بن زياد قاد الجيوش وطريف بن مالك عاد بالأخبار السارة فبالإسلام اجتمع العرب والعجم ، باسمه قامت حضارة شامخة وبفضله اجتمعت قلوب متفرقة فلا يمكن أن نسكت على محاولات التفريق والتشويه وطمس الحقائق أن يعطوهم أسماء قبلية تبعدهم عن الوحشية ، رغم أنهم لم يحققوا إنجازا استفادت منه البشرية بل كانوا معاول هدم وخراب.
الساعة الآن الثامنة والربع : ونحن لا نزال في اشبيلية ، نستعد للرحيل إلى قرطبة ، وبعد ما تكامل جميع رفاق الرحلة ، متخذين مقاعدهم بالأتوبيس أمام الفندق الذي بتنا فيه ليلتنا ، وفي حوالي النصف بعد الثامنة انطلقا نحو قرطبة زينة ممالك العصور الوسطى ، ودرة العالم المتحضر خلالها وسيدة الدنيا ثقافيا وعسكريا قرطبة عاصمة العالم الإسلامي إبان هذه العصور في الغرب ، والتي دلت زمنا طويلا بجمالها ، ورفعة شأنها وعظمة ساستها.
المطبوعة الصغيرة التي وزعت علينا تقول " إن زيارتنا لقرطبة ستتضمن زيارة جامعها المشهور عالميا ، وحي القصبة ، والمعبد اليهودي ، وتناول الغذاء في أحد مطاعمها التاريخية " ، فسألت عن ( الزهراء ) التي قرأنا عنها في التاريخ، إن الناصر بناها تكريما لزوجته وأتم خلفاؤه نواقصها فبدت آية في الفن المعماري وبقيت أطلالها الآن تحكي ما كان يتمتع به المسلمون من ذوق وقدرة فقالوا إن برنامج الرحلة يترتب عليه أجر أكثر فليس كل الرحلات لقرطبة تشمل الزهراء" فوددت لو نبهت لذلك مسبقا.
المسافة بين اشبيلية وقرطبة تزيد على الثلاث ساعات قليلا شاهدنا أثناءها مدنا صغيرة ، وبعض ، القرى الريفية الجميلة ومتعنا نظرنا بتلال غير مرتفعة ، وسهول افترشتها الخضرة ، فبدت النفوس مسرورة لما تشاهده الأعين ، والأبدان مرتاحة من الجو المنعش مما ساعدنا فيما بعد على التحمل والحركة والتجوال.
وفي الحادية عشرة وصلنا قرطبة (Cordoba) فإذا بها كما تخيلنا عروسا ترفل مختالة بكامل زينتها ، وتمام حليها وقد زادها الوادي الكبير جمالا. وبدا جسرها العربي الذي رمم مؤخرا ن بدا لنا وكأنه من صنع عصر التكنولوجيا.
وفي هذه اللحظة أحسست من شدة الحرص ، في عدم تفويت أي شيء بالتوتر فتزاحمت في ذهني المشاهد لدرجة أني فكرت في التخلف عن العودة لملقه والبقاء في قرطبة يوما إضافيا غير تذكري فجأة لموعد قدوم إبنتي لمدريد من باريس قتل الرغبة في البقاء مدة أطول ــ وقرطبة سمى على اسمها مدينتان في الأرجنتين والمكسيك وهي في حاضرها عاصمة لمقاطعة ومركز أسقفي وتشتهر بصناعة الجلود والمصوغات، ولكن ما يهمنا منها هو ماضيها في العهد العربي حيث كانت زهرة المدائن ، ودرة العواصم ومنها نبتت بذرة المعارف الحديثة فصارت مجمعا لأنواع شتى من البشر فازدهر اقتصادها وسمت مكانتها العسكرية ، وسيطرت سياستها ، وكان جامعها الكبير أول جامعة في العالم أبصرت منه أوربا نور المدينة ومما يؤسف له أن هذا الأثر الإسلامي العظيم حول إلى كاتدرائية منذ عام 1238م ، بيد أن الحكومة الاسبانية شعرت بالخطأ مؤخرا فظل الأثر رغم محاولات تشويهه ، يحكي قصة قوم ملئوا الدنيا عدلا وحبا وسلاما.
المهم بالكاد وجدنا موقفا بالحي الذي يقع في منتصفه الجامع ، فنزلنا لبضع عشرة دقيقة كوقت آخر نتجول خلاله في الحوانيت القريبة والتي رأيناها لا تختلف عن حوانيت عالمنا العربي القديمة .
عندما حضر الدليل سرنا خلفه عدة خطوات، فوقف فجأة طالبا منا الانتباه لما سيقوله فأصغينا إليه فإذا به يتحدث حديثا جعل العبرة تخنقني حتى كادت أدمعي على الخدين تطفر فشعرت بألم ممتزج بفخر وحزن وفرح في آن واحد معا قال " نحن سنتجه أولاً إلى الجامع وقد كان بمثابة جامعة عظيمة ، إنه أول جامعة منه أبصر الغرب نور المعرفة فانتشر أفواج المتخرجين من العلماء المزودين بمختلف أنواع العلوم ، والحقيقة التي يجب علينا عدم نكرانها أن العرب كانوا الجسر الذي وصلنا بالثقافة الإغريقية ومن خلالهم عرفنا الكيمياء والفيزياء والجبر والفلسفة سواء بواسطة الذين عاشوا وولدوا في اسبانيا أو ممن انتقلت أفكارهم من علماء المسلمين في الشرق، كالخوارزمي والباروني وغيرهما . وقد ولد ابن رشد الذي كانت شروحه على فلسفة أرسطو من عوامل نهضة الإنسان الأوربي ، وكانت هذه الريادة الحضارية لقرطبة عاملا فعالا في ظهور مواهب اسبانية تمثلت في عبقرية سنيكا ولوكان وميمونيدس" واستطرد : " ولكن عظمتهم توارت ورقيهم اختفي عندما فرقتهم عواصف الكرة واستبدت بهم الأنانية . فصاروا شيعا وأحزابا متنافرة متباغضة" .
بقدر ما حزنت لقول الدليل أحسست بنوع من الفرح حزنت لخلافاتهم وأنانياتهم بعد أن تشتت شملهم فغدوا طوائف متباعدة، ضعفاء بعد قوة بسبب تفشي الخيانات في صفوفهم واستحكام حب الذات فيهم، فصاروا فرادى أقوياء ، وجماعات ، ضعفاء ، فضاع مجدهم ، وذهبت بهذا ريحهم.
وفرحت بما خلفوه ، وتركوه ، وأنجزوه ، ليحكي قصة حضارة رفيعة ، وإيمان صادق، وتضامن فريد ، فدللوا بذلك على إبداع الإنسان العربي الذي يشاهده الملايين كل عام من شتى قارات الدنيا متمثلا بمآثره التي تشهد بأن العالم الحديث ارتوى من نبع حضارة اسبانية العربية .
بعد هذا الحديث المفرح المبكي ، قادنا رأسا لزقاق ضيق جدا ملاصق تماما للجامع ، وقد انتهى بنا إلى ميدان صغير تتوسطه نافورة ماء يتدفق منها ماء غزير ، وترتفع إلى جانبها شجرة عملاقة فقال: هذا الشارع أصغر شوارع قرطبة وأقدمها على الإطلاق إنه من العهد العربي الذي زهت فيه مدينة قرطبة قبل التمزق واحتلال مكانتها. وهذا الميدان أصغر ميادينها ، ولكن انظروا إلى هذه الشجرة إنها أكبر أشجار المدينة " .
واستمر قائلا " الماء سوف تستغربون غزارته في كل مكان ، لأنه سوف لا يغيب عنكم تطوافكم ، فلماذا كل هذا الاهتمام بالماء والإسراف في توزيعه في الجامع والأحياء المحيطة به ؟ وعلى فكرة هذه الأحياء مسكنة وعامرة بالحركة ولابد أنكم تلاحظون الطابع الغريب عليها أنه الطابع العربي الصميم ، والحقيقة أن هذا التأثير ليس فقط بالبناء وأشكال المنازل المزينة بالسيراميك والفسيفساء بل في عادات وطبائع سكانها " قال " نعود فئغن هناك سرا في الاهتمام به أرجو أن تتبعوني " وتبعناه بعد ما أصابت الدهشة الجميع وباتوا ينظرون المفاجأة، ولكنني وزوجتي أدركنا ما يعنيه غير أننا بتنا نرقب بشوق والدهشة تعلو وجوه رفاق الرحلة الذين لم يكن بينهم مسلم سوانا فقال: " فقال العرب قوم نظيفون ن فدينهم يفرض عليهم النظافة لأنها من الإيمان . تصوروا أنهم يغتسلون ثالث مرات في اليوم " فوقع بالخطأ ولكننا لم نعترض ، ومع ذلك لم يكتف البعض بما قال فأخذ يسأل ويستفسر وفيهم من غفر فاه مندهشا فالإنسان الغربي ــ كما نعلم ــ ينفر من الاغتسال ــ ويوجد منهم أناس تمضي عليهم سنون دون استحمام .. ولا غرابة أن يندهش ويتعجب وقال أيضا " ــ يظن البعض أن سبب اهتمام المسلمين بالماء يعود إلى تعويض ما افتقدوه في بيئتهم الشحيحة وأن إسرافهم ما هو إلا عملية تعويض إلا أن الحقيقة تقول : إن العرب يحبون الإحسان ومن أبرز مظاهرة بالإضافة إلى حبهم الشديد للنظافة ، عدم تكليف الرعية مشقة استخراج الماء من منابعه" .
بعد ذلك دلفنا الجامع فأدهشنا هندسته المعمارية ، وقبل تجوالنا في جهاته وأركانه قال: " لقد شاد عبدالرحمن الأول ــ في أسبانيا أميران وخليفة تولوا هم : عبدالرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بالداخل والملقب بصقر قريش و عبدالرحمن الحكم بن هشام بن عبدالرحمن المعروف بالأوسط أو الثاني ، والخليفة هو عبدالرحمن بن عبدالله المعروف بالناصر ،الذي بلغت في عهده الأندلس ذروتها.. واستمر حكمه خمسين عاما فكان ثاني حاكم مسلم بعد الحاكم بأمر الله الفاطمي، من حيث المدة الزمنية التي حكم خلالها وفي العصور الحديثة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن "
نعود إلى حديث الدليل " أشاد هذا الجامع مسعبنا بفكرة جده الخليفة الوليد بن عبد الملك ، الذي أقام في دمشق جامعا على أنقاض كنيسة كان مهندسوه وفنيوه من بيزنطا، وبمواد بناء سابق وفعل حفيده مثله حين عمد إلى إقامة هذا الجامع فالعرب لا يملكون الابتكار، بل اعتمدوا على قدرات وأفكار الآخرين.
كان هذا الجامع ــ لا زال الحديث للدليل ــ معبدا قديما وقد قام بتصميمه وتزيينه عناصر غير عربية " . لم أحتمل هذا
الجزء القديم من قرطبة ويبدو جامعها والوادي الكبير
الكلام فكدت أنفجر غيظا, وأوشكت أن أصرخ من خلفه قائلا: أتريد القول أن العرب مقلدون هذه قدرة ولكنك في غضون دقائق ناقضت نفسك لأنك سبق وقلت أن نهضة أوربا قامت على أكتاف العرب، وأعلم أن الإنسان العربي من أقدر الناس على الخلق والإبداع ، إلا أنني عندما راجعت نفسي وجدت أن ثورتي ستخلق تذمرا فصبرت كاتما غيظي فقلت بيني وبين نفسي معللا كلامه: لعله عدم الكلام ن ومن خلال تجاربه عرف الناقمين على العرب من الأوربيين كثر . فحاول أن يخفف من ضيقهم بما قاله ، ولكنه سرعان ما داوى جرح طعنته النجلاء حيث قال: ــ " لعل بعضكم لا يعرف أن الآلة الموسيقية الشهيرة الجيتار ، انتقلت إلى اسبانيا، ومن ثم إلى جميع أرجاء العالم من الشرق ,وكان (جرياب) ــ يعني زريابا ــ أول من عزفها وطورها وعلم أصولها ووضع قواعدها " ــ يقصد العود الذي زاد فيه على بن نافع المعروف بزرياب وترى بعد فراره من مكيدة أستاذه إسحاق الموصلي في بغداد . وقال مستطردا: " لم يكن جرياب عازفا ماهرا ومغنيا عظيما فقط ، بل كان صاحب ذوق رفيع وراعي مدرسة فنية راقية ورائدا أحدث ثورة في الموائد وآدابها. وبروتكولات الاستقبال في الحفلات، وابتكر موضات في الملابس والأزياء وواصل من بعده بنوه وبناته مطورين ما كان قد بدأه والدهم النابغة.
خرجنا عقب فراغنا من مشاهدة جامع قرطبة متجهين خلف دليلنا فيها عبر العديد من الأزقة التي بدت بيوتها مطبوعة بالطراز العربي ، إلى أن دخلنا بيتا يتكون من دورين ، في كل دور منه عدة حجرات بشكل مربع مختلفة أحجامها ، وفي وسطه صحن واسع تتمركز في قلبه بركة تنتصب إلى جانبها نخلة كبيرة ، وتسكنه ــ كما قال الدليل ــ أسرة أندلسية قديمة.. والتفت نحونا مخاطبا : " هذه الدار أقرب ما تكون إلى الدار التي حل بها عبدالرحمن الأول .. وهذه الشجرة انظروا إليها إنها شجرة نخيل ، عبر بها عن شوقه العارم ، وحنينه الشديد لعاصمة أجداده ، فزرعها هنا وأنشد بها قصيدة مشهورة عند العرب حتى الآن .. ومما ويجدر ذكره هنا أن الحكام العرب لم يكونوا ملوكا وأمراء فقط ، وإنما معظمهم اشتهر بفروسيته ومواهبه الشعرية وامتاز بكرمه وجرأته ، وكان الأمير عبدالرحمن واحدا من هؤلاء الذين برعوا في السياسة والآداب والحروب، وقد دخل الأندلس بمساعدة أقاربه في أفريقيا ، وسماه خليفة بغداد رغم كرهه الشديد له(الصقر)ويبدو أن قريشا قد غابت عنه فلم يذكرها.. قال الداخل بعد رؤيته نخلة في الرصافة في قرطبة :
تبدت لنا وسط الر صافة نخلة ** تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت: شبيهي في التغرب والنوى** وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيه غريبة *** فمثلك في الإقصاء والمنتأي مثلي
سقتك غوادي المزن في المنتأي الذي *يسح ويستمري السماكين بالوبل
وقال كذلك يخاطب نخلة : ــ
يا نخل أنت فريدة مثلي ***في الأرض نائية عن الأهل
تبكي وهل تبكي مكممة *** عجماء لم تجبل على جبلي
ولو أنها عقلت إذن لبكت*** ماء لفرات ومنبت النخل
بعد أن فرغ الدليل من الحديث عن الدار أخذ يحدثنا عن كيفية تهوية المنازل أثناء فصل الصيف ,كيف أن الحرارة تشتد في قرطبة في تموز(jully)حتى تتجاوز أحيانا الثلاثين درجة مئوية بغض النظر عن هذا العام ــ عام 1976م الذي ارتفعت فيه درجات الحرارة في أولرا ارتفاعا غير طبيعي فتنهد بعض الزوار متعجبا من ارتفاع الحرارة. من ثم ذهب بنا عبر كثير من الأزقة المتميزة بالطابع العربي حتى بلغنا المعبد اليهودي القديم ، وهو عبارة عن غرفة كبيرة تتكون من طابقين ، على جدرانها بعض الكتابات العربية والصور البدائية ، وفي منتصفها مقصورة قال عنها "إن اليهود في اسبانيا تأثروا بالعرب في مسألة فصل النساء عن الرجال ، وأن قرطبة قام بها فكر يهودي فعال في ظل العرب ، الذين قدروا لهم مساعدتهم عند فتحهم اسبانيا فرفعوا عنهم الرقابة، وجعلوهم يتحركون في حرية تامة ــ وإن تناقص عدد اليهود في اسبانيا فقد زاد في السنوات التسع والعشرين الأخيرة بسبب هجرتهم من إفريقيا العربية " .
عجيب صدور هذا الكلام من إنسان يجب أن يكون أمينا في نقل الحقيقة ، فما صدر منه ينم عن دس مقصود الغرض في نقل الحقيقة من قيمة العرب والإيحاء بأسلوب مدروس بأنهم نفعيون لا يقيمون وزنا إلا لمن ينتظرون منه خدمة .. يفيدون منها بينما العكس هو الصحيح وهذا ما تقرره معاملاتهم للناس في جميع البلدان التي امتد إليها سلطانهم حيث سعدت شتى الأجناس بسماحتهم وحبهم للعدل وعدم مساسهم الحريات الفكرية والعقائدية وأخذ يبحث ما عن ما يقوله عن اليهود فلم يجد سوى أنهم صناع مهرة وتجار ناجحون وفي الحكم وكيف أ، (ايزابيل وفدريناند) عهدا إليهم بكثير من المهام ، رغم اضطهاد الكنيسة لهم.
مجرد إفتعال وحديث بلا جدوى ، ومع ذلك لا حظت الاهتمام بأديا على وجوه بعض الزوار، وهذا ما كنت أطلبه عندما ذهبت مع المجموعة لزيارة المعبد اليهودي ، ويبدو كذلك إنه لاحظ اهتمامهم فأخذ يتكلف الحديث عن اليهود تكلفا واضحا ، حتى يرضى من حوله لأنه لو كان يستهدف الموضوعية لما تجاهل نكرانهم للجميل وتجنب ذكر تراثهم اللا مشروع ولا يبدو لي أن صورتهم التي جسدها شكسبير في شخصية شايلوك برواية تاجر البندقية تخفاه.. ولكنه لا يستطيع المجاهرة بذلك لئلا ينقطع رزقه.
عندما حان وقت الظهيرة توجهنا للمطعم القرار تناول الغداء به وقد بدا مظهره الخارجي بسيطا ولكننا عند دخوله وجدناه في منتهى الأناقة ن وهنا تذكرت ما سبق وقاله مرشدنا في اشبيلية " إن القصور العربية في الغالب يبدو مظهرها الخارجي غير جذاب ولكن المرء تكاد تصعقه الدهشة حينما يدخل حيث تأخذه روعة البناء، ودقة الهندسة ن والتوزيع الفني الرفيع في النقوش وتناسق الألوان للدرجة التي يود معها عدم الخروج " .
وتناولنا الطعام وبعده سمح لنا بجولة مدتها نصف ساعة أمضيناها في شراء بعض الحاجات والتقاط بعض الصور التذكارية ومن ثم بدأت رحلة العودة إلى ملقا، من طريق غير الطريق الذي سلكناه سابقا ن وقد استغرقت قرابة الساعتين تخللتها استراحة في قرية نموذجية ، لمدة ربع ساعة تقريبا.. ووصلنا بعدها مدينة ملقه .
بعد الوصول قررنا الإقامة يوما، حتى نرتب خلالها رحلتنا لمدريد بعدما نفرغ من زيارة غرناطة في اليوم التالي، ولكي نتبضع أيضا مما تشتهر به المدينة ونأخذ قسطا من الراحة، تمكنا من التطوف في غرناطة وقصر الحمراء.ولكن ما كنا قررناه طرأ ما عاقه .. فبالصدفة علمنا من موظف استقبال الفندق الذي نقيم فيه أن كل شيء في ملقه مغلق غدا لأنه يومها القومي وحتى لا نتعطل ويفوت علينا يوما رجوت الموظف أن يتصل بإحدى وكالات السفر السياحي، من أجل تنظيم رحلة لغرناطة في هذا اليوم وبصعوبة تم الحجز واستعدينا للرحلة من الغد رغم التعب
في الكتابة عن التاريخ العربي ، أحاول تجنب ذكر كلمة العصور الوسطى لكونه اصطلاحا يوحي بالظلام والتأخر ... والعرب إبان هذه القرون كانوا ينعمون برخاء وتقدم ويتمتعون بحرية لم تعرفها أمة من الأمم القديمة والوسطية .. وفي الوقت الذي كان الغرب فيه في أقصى درجات الانحطاط ، كان العالم الإسلامي في قمة ازدهاره المعنوي والمادي ولكن يبدو أن الاصطلاح شع فوقع فيه ــ عن حسن نية ـ كثيرون من كبار مؤرخي العرب ، ورغم أنهم يقولون : (خطأ شائع من صحيح مغمور ) فإني أرفض من حيث المبدأ ترويج الأخطاء والتشجيع على ارتكابها .. ولكني أجدها الآن مناسبة لعنوان ، وذلك ليس فقط لشيوع الاصطلاح حتى تتضح صورة التفوق الإسلامي على العالم المسيحي خلال هذه العصور ، ولا لأن ارتباط الحياة العربية في الأندلس بأوربا كان وثيقا سواء في الحرب أو في السلم ، ولأن العلاقات العسكرية والسياسية ن والثقافية والاقتصادية ، مع الممالك الأوربية في القرون الوسيطة لم تنقطع طيلة ثمانية قرون ، مما جعل ما ينطبق عليه في غرب العالم الإسلامي يغاير في بعض جوانبه ما ينطبق عليه في الشرق ، بل لأن الأندلس كانت نقطة الضوء الوحيدة في أوربا واستحدث أهلها أنماطا أثرت في الضوء الوحيدة تأثيرا بليغا في كثير من مناحي حياته.
ومما يؤلم العربي الذي يزور آثار قومه في أسبانيا، طغيان كلمة (مور ) على السنة الأجانب وتعني عرب شمال إفريقيا، ولا نعلم لماذا الإصرار على ترديد هذه الكلمة ، رغم بعدها عن الصحة والصواب حتى اشتهرت وصار بعض الناس ممن ليس لهم دراية بالتاريخ يظن أن المور غير العرب؟!.
إن هذا لا يجوز لأنه مغالطة فاضحة . وما نرجوه أن تنبه الأمة العربية الحكومة الإسبانية الصديقة والقريبة ، على هذه المفهوم الخاطئ الذي قصد من ورائه تشويه سمعة العرب ومسح ذكرهم فالإصرار على اللفظ من شأنه تضييع المجد العربي في اسبانيا ومن المعروف أيضا أن الإسلام جمع بين الأمم ولم يفرق بين الأجناس ، أو يمايز في ألوان الناس فهم سواء ، والأفضلية عمادها التقوى والعمل الصالح وكما أن كثيرا من أهل المغرب يعودون بأصلهم إلى المشرق ففيهم من أخلص للإسلام وضحى في سبيله. وكما أن الخليفة الوليد بن عبد الملك أمر بالفتح ، وموسى بن نصير خطط له فطارق بن زياد قاد الجيوش وطريف بن مالك عاد بالأخبار السارة فبالإسلام اجتمع العرب والعجم ، باسمه قامت حضارة شامخة وبفضله اجتمعت قلوب متفرقة فلا يمكن أن نسكت على محاولات التفريق والتشويه وطمس الحقائق أن يعطوهم أسماء قبلية تبعدهم عن الوحشية ، رغم أنهم لم يحققوا إنجازا استفادت منه البشرية بل كانوا معاول هدم وخراب.
الساعة الآن الثامنة والربع : ونحن لا نزال في اشبيلية ، نستعد للرحيل إلى قرطبة ، وبعد ما تكامل جميع رفاق الرحلة ، متخذين مقاعدهم بالأتوبيس أمام الفندق الذي بتنا فيه ليلتنا ، وفي حوالي النصف بعد الثامنة انطلقا نحو قرطبة زينة ممالك العصور الوسطى ، ودرة العالم المتحضر خلالها وسيدة الدنيا ثقافيا وعسكريا قرطبة عاصمة العالم الإسلامي إبان هذه العصور في الغرب ، والتي دلت زمنا طويلا بجمالها ، ورفعة شأنها وعظمة ساستها.
المطبوعة الصغيرة التي وزعت علينا تقول " إن زيارتنا لقرطبة ستتضمن زيارة جامعها المشهور عالميا ، وحي القصبة ، والمعبد اليهودي ، وتناول الغذاء في أحد مطاعمها التاريخية " ، فسألت عن ( الزهراء ) التي قرأنا عنها في التاريخ، إن الناصر بناها تكريما لزوجته وأتم خلفاؤه نواقصها فبدت آية في الفن المعماري وبقيت أطلالها الآن تحكي ما كان يتمتع به المسلمون من ذوق وقدرة فقالوا إن برنامج الرحلة يترتب عليه أجر أكثر فليس كل الرحلات لقرطبة تشمل الزهراء" فوددت لو نبهت لذلك مسبقا.
المسافة بين اشبيلية وقرطبة تزيد على الثلاث ساعات قليلا شاهدنا أثناءها مدنا صغيرة ، وبعض ، القرى الريفية الجميلة ومتعنا نظرنا بتلال غير مرتفعة ، وسهول افترشتها الخضرة ، فبدت النفوس مسرورة لما تشاهده الأعين ، والأبدان مرتاحة من الجو المنعش مما ساعدنا فيما بعد على التحمل والحركة والتجوال.
وفي الحادية عشرة وصلنا قرطبة (Cordoba) فإذا بها كما تخيلنا عروسا ترفل مختالة بكامل زينتها ، وتمام حليها وقد زادها الوادي الكبير جمالا. وبدا جسرها العربي الذي رمم مؤخرا ن بدا لنا وكأنه من صنع عصر التكنولوجيا.
وفي هذه اللحظة أحسست من شدة الحرص ، في عدم تفويت أي شيء بالتوتر فتزاحمت في ذهني المشاهد لدرجة أني فكرت في التخلف عن العودة لملقه والبقاء في قرطبة يوما إضافيا غير تذكري فجأة لموعد قدوم إبنتي لمدريد من باريس قتل الرغبة في البقاء مدة أطول ــ وقرطبة سمى على اسمها مدينتان في الأرجنتين والمكسيك وهي في حاضرها عاصمة لمقاطعة ومركز أسقفي وتشتهر بصناعة الجلود والمصوغات، ولكن ما يهمنا منها هو ماضيها في العهد العربي حيث كانت زهرة المدائن ، ودرة العواصم ومنها نبتت بذرة المعارف الحديثة فصارت مجمعا لأنواع شتى من البشر فازدهر اقتصادها وسمت مكانتها العسكرية ، وسيطرت سياستها ، وكان جامعها الكبير أول جامعة في العالم أبصرت منه أوربا نور المدينة ومما يؤسف له أن هذا الأثر الإسلامي العظيم حول إلى كاتدرائية منذ عام 1238م ، بيد أن الحكومة الاسبانية شعرت بالخطأ مؤخرا فظل الأثر رغم محاولات تشويهه ، يحكي قصة قوم ملئوا الدنيا عدلا وحبا وسلاما.
المهم بالكاد وجدنا موقفا بالحي الذي يقع في منتصفه الجامع ، فنزلنا لبضع عشرة دقيقة كوقت آخر نتجول خلاله في الحوانيت القريبة والتي رأيناها لا تختلف عن حوانيت عالمنا العربي القديمة .
عندما حضر الدليل سرنا خلفه عدة خطوات، فوقف فجأة طالبا منا الانتباه لما سيقوله فأصغينا إليه فإذا به يتحدث حديثا جعل العبرة تخنقني حتى كادت أدمعي على الخدين تطفر فشعرت بألم ممتزج بفخر وحزن وفرح في آن واحد معا قال " نحن سنتجه أولاً إلى الجامع وقد كان بمثابة جامعة عظيمة ، إنه أول جامعة منه أبصر الغرب نور المعرفة فانتشر أفواج المتخرجين من العلماء المزودين بمختلف أنواع العلوم ، والحقيقة التي يجب علينا عدم نكرانها أن العرب كانوا الجسر الذي وصلنا بالثقافة الإغريقية ومن خلالهم عرفنا الكيمياء والفيزياء والجبر والفلسفة سواء بواسطة الذين عاشوا وولدوا في اسبانيا أو ممن انتقلت أفكارهم من علماء المسلمين في الشرق، كالخوارزمي والباروني وغيرهما . وقد ولد ابن رشد الذي كانت شروحه على فلسفة أرسطو من عوامل نهضة الإنسان الأوربي ، وكانت هذه الريادة الحضارية لقرطبة عاملا فعالا في ظهور مواهب اسبانية تمثلت في عبقرية سنيكا ولوكان وميمونيدس" واستطرد : " ولكن عظمتهم توارت ورقيهم اختفي عندما فرقتهم عواصف الكرة واستبدت بهم الأنانية . فصاروا شيعا وأحزابا متنافرة متباغضة" .
بقدر ما حزنت لقول الدليل أحسست بنوع من الفرح حزنت لخلافاتهم وأنانياتهم بعد أن تشتت شملهم فغدوا طوائف متباعدة، ضعفاء بعد قوة بسبب تفشي الخيانات في صفوفهم واستحكام حب الذات فيهم، فصاروا فرادى أقوياء ، وجماعات ، ضعفاء ، فضاع مجدهم ، وذهبت بهذا ريحهم.
وفرحت بما خلفوه ، وتركوه ، وأنجزوه ، ليحكي قصة حضارة رفيعة ، وإيمان صادق، وتضامن فريد ، فدللوا بذلك على إبداع الإنسان العربي الذي يشاهده الملايين كل عام من شتى قارات الدنيا متمثلا بمآثره التي تشهد بأن العالم الحديث ارتوى من نبع حضارة اسبانية العربية .
بعد هذا الحديث المفرح المبكي ، قادنا رأسا لزقاق ضيق جدا ملاصق تماما للجامع ، وقد انتهى بنا إلى ميدان صغير تتوسطه نافورة ماء يتدفق منها ماء غزير ، وترتفع إلى جانبها شجرة عملاقة فقال: هذا الشارع أصغر شوارع قرطبة وأقدمها على الإطلاق إنه من العهد العربي الذي زهت فيه مدينة قرطبة قبل التمزق واحتلال مكانتها. وهذا الميدان أصغر ميادينها ، ولكن انظروا إلى هذه الشجرة إنها أكبر أشجار المدينة " .
واستمر قائلا " الماء سوف تستغربون غزارته في كل مكان ، لأنه سوف لا يغيب عنكم تطوافكم ، فلماذا كل هذا الاهتمام بالماء والإسراف في توزيعه في الجامع والأحياء المحيطة به ؟ وعلى فكرة هذه الأحياء مسكنة وعامرة بالحركة ولابد أنكم تلاحظون الطابع الغريب عليها أنه الطابع العربي الصميم ، والحقيقة أن هذا التأثير ليس فقط بالبناء وأشكال المنازل المزينة بالسيراميك والفسيفساء بل في عادات وطبائع سكانها " قال " نعود فئغن هناك سرا في الاهتمام به أرجو أن تتبعوني " وتبعناه بعد ما أصابت الدهشة الجميع وباتوا ينظرون المفاجأة، ولكنني وزوجتي أدركنا ما يعنيه غير أننا بتنا نرقب بشوق والدهشة تعلو وجوه رفاق الرحلة الذين لم يكن بينهم مسلم سوانا فقال: " فقال العرب قوم نظيفون ن فدينهم يفرض عليهم النظافة لأنها من الإيمان . تصوروا أنهم يغتسلون ثالث مرات في اليوم " فوقع بالخطأ ولكننا لم نعترض ، ومع ذلك لم يكتف البعض بما قال فأخذ يسأل ويستفسر وفيهم من غفر فاه مندهشا فالإنسان الغربي ــ كما نعلم ــ ينفر من الاغتسال ــ ويوجد منهم أناس تمضي عليهم سنون دون استحمام .. ولا غرابة أن يندهش ويتعجب وقال أيضا " ــ يظن البعض أن سبب اهتمام المسلمين بالماء يعود إلى تعويض ما افتقدوه في بيئتهم الشحيحة وأن إسرافهم ما هو إلا عملية تعويض إلا أن الحقيقة تقول : إن العرب يحبون الإحسان ومن أبرز مظاهرة بالإضافة إلى حبهم الشديد للنظافة ، عدم تكليف الرعية مشقة استخراج الماء من منابعه" .
بعد ذلك دلفنا الجامع فأدهشنا هندسته المعمارية ، وقبل تجوالنا في جهاته وأركانه قال: " لقد شاد عبدالرحمن الأول ــ في أسبانيا أميران وخليفة تولوا هم : عبدالرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بالداخل والملقب بصقر قريش و عبدالرحمن الحكم بن هشام بن عبدالرحمن المعروف بالأوسط أو الثاني ، والخليفة هو عبدالرحمن بن عبدالله المعروف بالناصر ،الذي بلغت في عهده الأندلس ذروتها.. واستمر حكمه خمسين عاما فكان ثاني حاكم مسلم بعد الحاكم بأمر الله الفاطمي، من حيث المدة الزمنية التي حكم خلالها وفي العصور الحديثة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن "
نعود إلى حديث الدليل " أشاد هذا الجامع مسعبنا بفكرة جده الخليفة الوليد بن عبد الملك ، الذي أقام في دمشق جامعا على أنقاض كنيسة كان مهندسوه وفنيوه من بيزنطا، وبمواد بناء سابق وفعل حفيده مثله حين عمد إلى إقامة هذا الجامع فالعرب لا يملكون الابتكار، بل اعتمدوا على قدرات وأفكار الآخرين.
كان هذا الجامع ــ لا زال الحديث للدليل ــ معبدا قديما وقد قام بتصميمه وتزيينه عناصر غير عربية " . لم أحتمل هذا
الجزء القديم من قرطبة ويبدو جامعها والوادي الكبير
الكلام فكدت أنفجر غيظا, وأوشكت أن أصرخ من خلفه قائلا: أتريد القول أن العرب مقلدون هذه قدرة ولكنك في غضون دقائق ناقضت نفسك لأنك سبق وقلت أن نهضة أوربا قامت على أكتاف العرب، وأعلم أن الإنسان العربي من أقدر الناس على الخلق والإبداع ، إلا أنني عندما راجعت نفسي وجدت أن ثورتي ستخلق تذمرا فصبرت كاتما غيظي فقلت بيني وبين نفسي معللا كلامه: لعله عدم الكلام ن ومن خلال تجاربه عرف الناقمين على العرب من الأوربيين كثر . فحاول أن يخفف من ضيقهم بما قاله ، ولكنه سرعان ما داوى جرح طعنته النجلاء حيث قال: ــ " لعل بعضكم لا يعرف أن الآلة الموسيقية الشهيرة الجيتار ، انتقلت إلى اسبانيا، ومن ثم إلى جميع أرجاء العالم من الشرق ,وكان (جرياب) ــ يعني زريابا ــ أول من عزفها وطورها وعلم أصولها ووضع قواعدها " ــ يقصد العود الذي زاد فيه على بن نافع المعروف بزرياب وترى بعد فراره من مكيدة أستاذه إسحاق الموصلي في بغداد . وقال مستطردا: " لم يكن جرياب عازفا ماهرا ومغنيا عظيما فقط ، بل كان صاحب ذوق رفيع وراعي مدرسة فنية راقية ورائدا أحدث ثورة في الموائد وآدابها. وبروتكولات الاستقبال في الحفلات، وابتكر موضات في الملابس والأزياء وواصل من بعده بنوه وبناته مطورين ما كان قد بدأه والدهم النابغة.
خرجنا عقب فراغنا من مشاهدة جامع قرطبة متجهين خلف دليلنا فيها عبر العديد من الأزقة التي بدت بيوتها مطبوعة بالطراز العربي ، إلى أن دخلنا بيتا يتكون من دورين ، في كل دور منه عدة حجرات بشكل مربع مختلفة أحجامها ، وفي وسطه صحن واسع تتمركز في قلبه بركة تنتصب إلى جانبها نخلة كبيرة ، وتسكنه ــ كما قال الدليل ــ أسرة أندلسية قديمة.. والتفت نحونا مخاطبا : " هذه الدار أقرب ما تكون إلى الدار التي حل بها عبدالرحمن الأول .. وهذه الشجرة انظروا إليها إنها شجرة نخيل ، عبر بها عن شوقه العارم ، وحنينه الشديد لعاصمة أجداده ، فزرعها هنا وأنشد بها قصيدة مشهورة عند العرب حتى الآن .. ومما ويجدر ذكره هنا أن الحكام العرب لم يكونوا ملوكا وأمراء فقط ، وإنما معظمهم اشتهر بفروسيته ومواهبه الشعرية وامتاز بكرمه وجرأته ، وكان الأمير عبدالرحمن واحدا من هؤلاء الذين برعوا في السياسة والآداب والحروب، وقد دخل الأندلس بمساعدة أقاربه في أفريقيا ، وسماه خليفة بغداد رغم كرهه الشديد له(الصقر)ويبدو أن قريشا قد غابت عنه فلم يذكرها.. قال الداخل بعد رؤيته نخلة في الرصافة في قرطبة :
تبدت لنا وسط الر صافة نخلة ** تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت: شبيهي في التغرب والنوى** وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيه غريبة *** فمثلك في الإقصاء والمنتأي مثلي
سقتك غوادي المزن في المنتأي الذي *يسح ويستمري السماكين بالوبل
وقال كذلك يخاطب نخلة : ــ
يا نخل أنت فريدة مثلي ***في الأرض نائية عن الأهل
تبكي وهل تبكي مكممة *** عجماء لم تجبل على جبلي
ولو أنها عقلت إذن لبكت*** ماء لفرات ومنبت النخل
بعد أن فرغ الدليل من الحديث عن الدار أخذ يحدثنا عن كيفية تهوية المنازل أثناء فصل الصيف ,كيف أن الحرارة تشتد في قرطبة في تموز(jully)حتى تتجاوز أحيانا الثلاثين درجة مئوية بغض النظر عن هذا العام ــ عام 1976م الذي ارتفعت فيه درجات الحرارة في أولرا ارتفاعا غير طبيعي فتنهد بعض الزوار متعجبا من ارتفاع الحرارة. من ثم ذهب بنا عبر كثير من الأزقة المتميزة بالطابع العربي حتى بلغنا المعبد اليهودي القديم ، وهو عبارة عن غرفة كبيرة تتكون من طابقين ، على جدرانها بعض الكتابات العربية والصور البدائية ، وفي منتصفها مقصورة قال عنها "إن اليهود في اسبانيا تأثروا بالعرب في مسألة فصل النساء عن الرجال ، وأن قرطبة قام بها فكر يهودي فعال في ظل العرب ، الذين قدروا لهم مساعدتهم عند فتحهم اسبانيا فرفعوا عنهم الرقابة، وجعلوهم يتحركون في حرية تامة ــ وإن تناقص عدد اليهود في اسبانيا فقد زاد في السنوات التسع والعشرين الأخيرة بسبب هجرتهم من إفريقيا العربية " .
عجيب صدور هذا الكلام من إنسان يجب أن يكون أمينا في نقل الحقيقة ، فما صدر منه ينم عن دس مقصود الغرض في نقل الحقيقة من قيمة العرب والإيحاء بأسلوب مدروس بأنهم نفعيون لا يقيمون وزنا إلا لمن ينتظرون منه خدمة .. يفيدون منها بينما العكس هو الصحيح وهذا ما تقرره معاملاتهم للناس في جميع البلدان التي امتد إليها سلطانهم حيث سعدت شتى الأجناس بسماحتهم وحبهم للعدل وعدم مساسهم الحريات الفكرية والعقائدية وأخذ يبحث ما عن ما يقوله عن اليهود فلم يجد سوى أنهم صناع مهرة وتجار ناجحون وفي الحكم وكيف أ، (ايزابيل وفدريناند) عهدا إليهم بكثير من المهام ، رغم اضطهاد الكنيسة لهم.
مجرد إفتعال وحديث بلا جدوى ، ومع ذلك لا حظت الاهتمام بأديا على وجوه بعض الزوار، وهذا ما كنت أطلبه عندما ذهبت مع المجموعة لزيارة المعبد اليهودي ، ويبدو كذلك إنه لاحظ اهتمامهم فأخذ يتكلف الحديث عن اليهود تكلفا واضحا ، حتى يرضى من حوله لأنه لو كان يستهدف الموضوعية لما تجاهل نكرانهم للجميل وتجنب ذكر تراثهم اللا مشروع ولا يبدو لي أن صورتهم التي جسدها شكسبير في شخصية شايلوك برواية تاجر البندقية تخفاه.. ولكنه لا يستطيع المجاهرة بذلك لئلا ينقطع رزقه.
عندما حان وقت الظهيرة توجهنا للمطعم القرار تناول الغداء به وقد بدا مظهره الخارجي بسيطا ولكننا عند دخوله وجدناه في منتهى الأناقة ن وهنا تذكرت ما سبق وقاله مرشدنا في اشبيلية " إن القصور العربية في الغالب يبدو مظهرها الخارجي غير جذاب ولكن المرء تكاد تصعقه الدهشة حينما يدخل حيث تأخذه روعة البناء، ودقة الهندسة ن والتوزيع الفني الرفيع في النقوش وتناسق الألوان للدرجة التي يود معها عدم الخروج " .
وتناولنا الطعام وبعده سمح لنا بجولة مدتها نصف ساعة أمضيناها في شراء بعض الحاجات والتقاط بعض الصور التذكارية ومن ثم بدأت رحلة العودة إلى ملقا، من طريق غير الطريق الذي سلكناه سابقا ن وقد استغرقت قرابة الساعتين تخللتها استراحة في قرية نموذجية ، لمدة ربع ساعة تقريبا.. ووصلنا بعدها مدينة ملقه .
بعد الوصول قررنا الإقامة يوما، حتى نرتب خلالها رحلتنا لمدريد بعدما نفرغ من زيارة غرناطة في اليوم التالي، ولكي نتبضع أيضا مما تشتهر به المدينة ونأخذ قسطا من الراحة، تمكنا من التطوف في غرناطة وقصر الحمراء.ولكن ما كنا قررناه طرأ ما عاقه .. فبالصدفة علمنا من موظف استقبال الفندق الذي نقيم فيه أن كل شيء في ملقه مغلق غدا لأنه يومها القومي وحتى لا نتعطل ويفوت علينا يوما رجوت الموظف أن يتصل بإحدى وكالات السفر السياحي، من أجل تنظيم رحلة لغرناطة في هذا اليوم وبصعوبة تم الحجز واستعدينا للرحلة من الغد رغم التعب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق