الاثنين، 27 أبريل 2009

مقــدمة


لا أود هنا أن أقدم بحثا في تاريخ إسبانية العربية، فهذا أمر يطول ويحتاج إلى عناء يفرضه على الباحث التدقيق والتحميض ، وملاحقة الحقائق واستقصاء الحوادث، بحيث لا يأتي بمثل حجم هذا الكتيب ولكن هذا لا يعني إهمال التوثيق بالنسبة للأحداث التاريخية.
وبما أن الرجوع للمصادر بمختلف أنواعها سيكون عند الضرورة فقط ، لكوني ــ وإن حاولت بذل جهدي أن التزم الدقة والصدق في تحري المعلومات التاريخية التي تطرأ بين حين وآخر لن أسير وفق المقاييس المرسومة للدراسات الأكاديمية ، لأن ما أسجله مجرد انطباعات أوجدتها مشاهداتي في إسبانيا ، وهذا لا يلزمني بإتباع أصول الكتابة التاريخية ــ وإن طرأـ معلومات ــ فالاستعانة بالذاكرة أو الرجوع من أسلوب قد يسلب شيئاً مما فاضت به عاطفتي وضجت أسلوب حياله أحاسيسي.
في الحقيقة إن نفسي لم تتق لبلد كتوقها لإسبانيا ، رغم زياراتي للعديد من البلدان الأوربية ، وإقامتي بواحدة منها مدة طويلة لحد ما ، ومع أن أغلبها أكثر رُقياً لم أشعر في يوم من الأيام برغبة الكتابة عنها ، فما أشاهده فيها لا يلبث طويلاً حتى يزول عن خاطري .
لا أدري قد يكون هذا تعصبا لحضارة قومي ، في أرض غريبة وبين شعب غريب ، فلقد رأيت آثارهم وكنت مزهواً بما أنجزوه أثناء سيري في وسط لزيارتها من شتى أرجاء المعمورة، لأن الموضوع أعد أساساً ليكون استطلاعاً صحفيا نشرته مجلة اليمامة الأسبوعية على حلقات سنة 1936هــ ففكرت في جمع ما نشر بعد تعديله وتشذيبه وتكثيفه في كتاب، فسنحت فرصة تكفل نادي الرياض الأدبي بنشره مشكوراً ضمن (سلسلة كتاب الشهر) في محاولة منه لتعميم الفائدة في جميع المجالات الأدبية ، وليملأ فراغا تحتاجه المكتبة السعودية في أدب الرحلات ــ إن جازت هذه التسمية ـــ راجياً أن ينال الرضي ويحقق المطلوب.
نشرت الموضوع على شكل حلقات في اليمامة ، تحت عنوان (الفردوس المفقود) وقد حرت قبل أن أعزم في اختيار العنوان، وذلك خوف أن يجد البعض حجة فيقولون : إن فلسطين هي فردوس العرب المفقود ، ولكنني بعد أن أمعنت التفكير وجدت ــ رغم كل ما جرى ويجرى الآن ــ أن فلسطين ستبقى عربية مهما حاول المتآمرون والمتصهينون وأن كل محاولة لتجريد شعبها منها سوف لا تفلح، ففلسطين مهما حصل أو سيحصل ــ لا تماثل إسبانية ، لكونها عربية قبل تدوين التاريخ بألفي عام ن واستمر الحكم العربي فيها عشرات القرون ، وفي قارة عربية ، ولا زالت عربية شعباً وعقيدةً ولساناً وتاريخاً وحضارةً وأرضا ًوكفاحاً.
بينما الحال بالنسبة لإسبانية يختلف ــ وأن نعمت بعدل الإسلام وسماحة العرب فغدت زهرة ممالك العصور الوسطى ، تضوع أريجها ، معطرا حياة أثناء هذه العصور ــ تبقى رغم كل هذا غريبة في أرض بعيدة وفي وسط عرق لا يمت للعرب ولم تكن تتحدث لغة سامية من قبل.
استقر رأيي على هذا العنوان ــ وإن سبق الشاعر الإنجليزي ملتون إليه فردوسية المفقود ولمستعاد ــ فالعرب هم الذين فقد فردوساً كان يمكن أن في حوزتهم ــ لو لم يتفرقوا ويختلفوا وتنصب لهم مشانق التفتيش ــ ولكن كما قالب أبو البقاء الرندي في مطلع قصيدته المؤثرة في رثاء الأندلس ووصف حالها عند خروج المسلمين منها :
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها من سره زمن ساءته أزمان
إلا أنني وجدت أن العنوان الآخر ، الذي وضعته إلى جانب العنوان الرئيسي ، يفي بالغرض أكثر ويعطي مدلولاً أدق لموضوعات الكتاب الذي عنونته ( صور عربية من إسبانيا). أعود لأقول تعليقا علي ما سبق ،إن الشعب الاسباني وجد في الحكم العربي الذي شمل شبه الجزيرة الإيبيرية ، عدا (أستور والباسك ) اللتين كانتا بؤرة تجمع الساخطين على فقدان امتيازاتهم ، فأشعلوا الشرارة التي تحولت لهيباً تصاعدت ألسنته حتى أحرقت الكيان العربي ، ومما ساعد هؤلاء على تجاسرهم ن حسد العرب لبعضهم منذ أيام الفتح الأولى ، وصراع الولاة بعد زوال دولة بني أُمية في المشرق، مرورا بالعصبية القبلية ، وعبر الداخل والمتوسط والناصر وغزوات برابرة أوربا ودسائس العرب ضد بعضهم ، وتنافس ملوك الطوائف وطمع المرابطين والموحدين وانتهاء بمأساة أبي عبد الله .
وجد الشعب الإسباني تسامحاً لم يألفه فاستغله الكثيرون ن وكانت الفرصة قد واتتهم من خلال انشغال العرب ببعضهم ، وتعلقهم في أواخر بالمظاهر ن وانسياقهم خلف نواعم الحياة وترفها ن فلما نالهم الضعف ثار هؤلاء مللا من الخلاف ، وتوقا لما توهموه تحررا من دخلاء عليهم .
هذا ولا يفوتني في هذا المقام التقدم بجزيل الشكر وعظيم الامتنان لكل من شجعني بكلمة أثناء نشر هذه الانطباعات، الأمر الذي دفعني إلى ضمها في كتاب بعد غربلتها وتنسيقها ، وأخص بالذكر فخامة رئيس الجمهورية العربية اليمنية الراحل المقدم / إبراهيم ألحمدي ، الذي أبدى إعجابه برسالة عبر بها فخامته رحمه الله عن مشاعره العربية الأصيلة المؤمنة ن وورد فيها معلومات قيمة دلت على ما كان يتمتع به من ثقافة غزيرة .
أما الطريقة التي اتبعتها في تأليف هذا الكتيب فلا تختلف عن الطريقة المعروفة سوى إحلالي الصور محل الفصول فحوت كل صورة مقالا عن موضوع معني ، بالإضافة إلى هذه المقدمة والتمهيد .. والمحتويات ، علماً بأنني لم أضع فهارس المصادر والإعلام والأماكن ، لأننا كما ذكرنا لا نكتب تاريخاً ولكننا أيضا لا نستطيع تجنب ما يضطرنا إليه الموقف في إدراج بعض المعلومات التاريخية . فالتاريخ ينبعث هنا من كل جانب وتحسه في كل ركن وزاوية ، وخلال تجوالنا ظل يحوم حولنا ، والأمكنة التي زرناها.مضمخة بطيبه.
كذلك عمدت في بداية كل صورة إلى وضع عناوين صغيرة ، أردتها بمثابة تلخيص لما جاء فيها .
أخيراً: اسأله تعالى العون أن أو فق إلأى رضاك عزيزي القريء الكريم،
المؤلف

تمهيــــــــد


تقع شبه الجزيرة الإيبيرية ( إسبانيا والبرتغال).. فتمتد من جبال البريينية في أوربا والتي تدعي خطاء ( البرانس ) ، حتى مضيق جبل طارق .
وهذه التسمية لبه الجزيرة العربية أخذت وفد من إفريقيا منذ أزمنة سحيقة تصل للعصورالجرية الحديثة، ويقال إن ا(الباصك) المقيمين في الجنوب الغربي لإسبانيا من بقاياهم ، وأنهم امتزجوا بالسلتيين الذين جاءوا بعدهم ، فشكلوا قوة لا تقبل بوجود الغرباء ، الأمر الذي جعلهم منغلقين ، وفي غاية التعصب، ومنهم فئات تقيم في أمريكا الجنوبية وجهات من العالم متفرقة ، وفي إسبانيا مركز ثقلهم يتوقون للانفصال ، بل ويناضلون من أجله ولا يزالون يحتفظون بلغتهم التي لا تمت بصلة لأي لغة بالعالم ــ وإن آلت إسبانية في العصور المتأخرة إلى التماسك ، بعد الصراعات التي جرت على أرضها ، وذلك بفضل وحدة اللغة والدين ــ فالملاحظ وجود نزاعات استقلالية خطيرة ، وتلف نسبي في جنوبها ، الذي لم يحظ باهتمام كالاهتمام الذي حظيت به بقية أجزائها.
ازدهرت الحضارة العربية بهذا الجزء بالذات ن وفي العهد العربي شهد أزهى أيامه ، وكان نصيبه من الاهتمام أكثر من سواه، ولعل دليلنا الغرناطي الذي قال مخاطبا زوار الحمراء المتحدثين بالإنجليزية جاءوا من مختلف أنحاء العالم ، فقسموا مجموعات حسب اللغات المعتمدة لشرح الآثار في إسبانية ، وهي على ما أظن الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والإيطالية ، فتتبع كل مجموعة الدليل الذي يجيد اللغة التي يفهمها أفرادها ن لعله أراد عندما قال:
: إن العرب سموا الجنوب الإسباني الأندلس ــ لفظها بالعربية ــ وتعني بلغتهم الفردوس" أن يظهر محاسن الجزء الذي ينتمي إليه أمام السياح الأجانب ، فوجدها فرصة انتهزها من خلال تركيز الحضارة العربية فيه ، وتعلقهم بما يمتاز به ، وتنعمهم بطبيعته الخلابة، وإنشادهم واشتياقهم وتوقهم وحنينهم له ، لكن الأندلس ــ على حد علمي ــ اكتسبت _الوندلس أو القندلس ) نسبة (للوندال أو القندال) وهم قسم من الشعوب الجرمانية انتشروا عقب انحلال الإمبراطورية الرومانية ابتداءً من القرن الخامس قبل الميلاد وبلغت قوتهم في إفريقيا واسبانيا ذروتها، مما حدا بالإمبراطورية الرومانية الشرقية ، والتي أسسها في آسيا الصغرى ( قسطنطين ) ، على أنقاض الأولى التي قوضها برابرة شمالي أوربا وجنوب شرقي آسيا تأخذ تفوقهم البحري في المتوسط نهب صقلية ، وغزو جنوبي إيطاليا ، وعندما اعتنقوا المسيحية على المذهب (الآيورسي) ، اضطهدوا في بعض عهودهم أتباع الأرثوذكسية غير أن عدم اعتنائهم بالفنون والآداب والعلوم مسح ذكرهم، فمضوا دون أن يخلفوا أثرا أو تأثير.
وذلك عكس (القوط الغربيين ) الذين تغلغلوا في الممالك الرومانية بعد انفصالهم عن القوط الشرقيين في القرن الرابع قبل الميلاد، فشكلوا قوة تُخشى ، وأسسوا فنا ـــ وإن كان محدودا ــ فقد أفسح اندماجهم بالسكان الأصليين واعتناقهم الكاثوليكية مجالا للتجاوب معهم ، رغم كونهم أيضا من قبائل الجرمان البربرية ، فقامت في القرن التاسع عشر الميلادي ، حركة أحياء واسعة بأوربا ، والولايات المتحدة ن لفن العمارة القوطي ــ وإن وجدت أعملا ممتازة ــ فإنها كما يقول الخبراء ــ غلب على معظمها القبح .
وهكذا يتضح لنا أن الأمة العارفة ــ حتى لو قليلا ــ ستنصرها معارفها، وقيمها على الأمة الجاهلة ـــ وإن انتصرت هذه عسكرياً، فالنصر الحقيقي يقوم على الإيمان والفكر والمبادئ لا على الحراب والسيوف والمدافع ، وأظهر مثل في عالمنا العربي أن هجمة التتار رغم وحشيتها وتدميرها لم تنل من قوة المسلمين المعنوية فانصهر كثيرون منهم في بوتقة المجتمع الإسلامي متخلين عن معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
فما بالك بتأثير العرب على الأسبان ، الذي لا زال قائما حتى الآن ، فنسي الناس التسمية القديمة للأندلس ن وصاروا يلفظونها بالكلمة المعربة ، وشيء من التحريف البسيط جدا بحيث لم يغير في جوهرها العربي ، فهم يدعونها (أندلوسية Andlucia) وبهذه التسمية تسمى المقاهي والمطاعم والفنادق والشركات ، فهذا مثلاً، مصرف أندلوسية وذلك مطعمها وتلك محطتها ، هذا فندقها.
ورغم ما قالته المشرفة الاجتماعية الحسناء على رحلتنا من ملقه إلى (إشبيلية) و(قرطبة ) فقد تقلبت موضوعيتها المشوبة بالخضوع الطويل تحت تأثيرات تعادي العرب .
قالت : ( أود أن أحدثكم باختصار عن تاريخ إسبانيا):
فاستمرت تحدثنا عن حالها في عهودها القديمة ن وفي ظل الرومان ، وعن ظلم البرابرة من فرنجة وهون وغال وجرمان ونورماندين ن وفي ظل العرب ، مروراً بعظمة الإمبراطورية الإسبانية التي وصلت أوجها إبان حكم (فيليب الثاني )إلى أن وصلت إلى (فرانكو ) و(خوان كارلوس ) وكانت لمحة ذكية منها إذ أنهت كلامها قائلة(... وهكذا عادت إسبانيا إلى أهلها ومسيحيتها، وواصلت مسيرتها الحضارية غير أنه يجب علينا عدم نكران جميل العرب ، التي بقت آثارهم عنوان أمة استطاعت أن تنفع بمعارفها الإنسانية .
ولكنها ــ إن نجحت في شد الانتباه فقد تعمدت ــ كما يبدو لي عن علم لقنت إياه ــ بث دعاية غير مباشرة ، تقوم مصالح الشركات التجارية عليها ، وبما أن للآثار العربية أهم ما يمكن أن يشاهد ، رغبت بأسلوب مدروس في زيارتها ، ف، وإلا ما معنى عادت إلى مسيحيتها متجاهلة أن التأثير العربي فيها فاق كل تأثير لو لم تقم محاكم التفتيش التي أقل ما يجب أن يقال فيها : إنها كانت عدوة للإنسان أنى حل لمحاولتها تدمير حضارته، وقد صدق الدليل القرطبي حين ذكر أن الحضارة الأيبيرية قرونا عديدة للوراء ، فأصاب التأخر كل صغيرة وكبيرة ، فتبددت الثقافة ، وضاعت المعارف وانهارت العلوم والفنون والآداب.
إن هذه حقيقة ملموسة الآن في إسبانيا ، البرتغال فإلى هذا الوقت تجدهما متخلفين بالنسبة لأوربا ، وذلك عائد إلى ما كان يمارسه في الماضي الساسة بعد خروج العرب منها، هؤلاء الذين أعماهم التعصب، وعصف بهم الحقد فلم يدركوا ما أدركه غيرهم ، فيستثمروا ما كان في متناول أيديهم ن فسبقهم الآخرون.
وكانت إيطاليا منطلق النهضة الأوربية الحديثة حين تسللت إليها من الأندلس عبر صقلية الثقافة العربية الإسلامية ، فإذا بها القنطرة التي نفذت عليها إلى بقية أقطار أوربا حضارة العرب ومن سبقهم بعد أن هذبوها وشذبوها ، فوصلت العصور الوسيطة ، فبدأنا نسمع عن اليوناردرافنشي ) و (دانتي ) و(بوكاسيو) وغيرهم.
لقد كانت الإرهاصات الأولية للنهضة الأوربية ، ما أبدعه العرب المسلمون ، وبعثوه ، فصار نواة للتطور الهائل الذي أصابه الأوربيون ، وكان ــ رغم أولوية سكان أيبيريا ،ــ نصيبهم منها أقل من غيرهم بكثير ، فلم يشعر ملوكهم بالجرم ، أو يقدروا الإنجازات الحضارية كما شعر النورمانديون في صقلية على الأقل ــ وفي مقدمتهم (روجر الثاني ) الذي اعترف بفضل الحضارة العربية ، أعمال العرب فروعي تراثهم ، واهتم بعلمائهم ، وأقطاب مثقفيهم واستدعى العالم الجغرافي ( الشريف الإدريسي ) صاحب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ) الذي وجد في بلاط الملك الصقلي الحفاوة والإكرام.
وإن تفوقت اسبانيا في فترة من الفترات عسكرياًــ فإنها لم تلبث طويلاً فتحطم تفوقها على صخرة تخلفها الناجم أساساً من محاربة ملوكها للعقيدة الإسلامية ، والثقافة العربية ، حين عمدوا إلى إطلاق أيدي غلاة رجال الدين الكاثوليك ، فأقاموا محاكم للتفتيش على غرار المحاكم اتي أقيمت في فرنسا بالعصور الوسطى، حيث اشتد البرهان الدومنيكيون في التحقيق بشأن المخالفين لتعاليم الكنيسة ــ وإن لجأت هذه للتعذيب ــ فإنها لم تحكم بالإعدام على إنسان ، بينما المحاكم الثانية في أسبانيا لم تترك وسيلة أو أسلوباً ، أو طريقة إلا استخدمتها ، فتفننت في تعذيب العرب المسلمين ، وعزرت مئات الألوف منهم ، فأقامت المقاصل ، ونصب المشانق ، وشردت واغتصبت واعتدت، بل امتدت رقابتها إلى الفكر ، ولما كانت أعمالها خرقا صارخاً لحقوق الإنسان ، فقد تردد ــ حتى البابا ــ في تأييدها نظرا لممارستها أللإنسانية ، إذ خلقت في النفوس ذعرا شديداً، كان دافعاً لقيام عصيان في وجه تأسيس محاكم مماثلة في الأراضي المنخفضة ، وفي نابلي قوض الأهالي سلطة القائمين عليها
هذه المحاكم اضطرت من لم يفر من وجهها ، أو يذهب ضحية لأحكامها الجائرة ، إلى التستر على دينه ولغته وعاداته فظل هذا التستر حتى صار عادة شكلها الكره والخوف ــ ولا يستبعد الكثيرون وجود من يمارسون طقوسهم وفقاً لما ينص عليه الدين الإسلامي ، ولكن ليس بالشكل الصحيح ، بسبب الحقب الزمنية الطويلة التي أنستهم كثيراً من المطلوب ولعدم اتصالهم بالمسلمين .
وفي أمريكا الجنوبية حالياً قبائل انعزلت عن الناس ، وفضلت الجهل بظل الحرية على العبودية بظل المدنية ، ويستدل بعض الباحثين من إجابات زعمائها على عروبة أفرادها ، لأنهم رغم قدومهم من إسبانيا أثناء التوسع ينكرون انتمائهم إليها ويقولون : إنهم فروا إلى العالم الجديد طلباً للأمن ، ولكنهم في موطنهم الجديد لم يختلطوا بالناس فظلوا مستقلين بحياتهم بعيدين عن جور الإنسان وظلمه.
بعد الخروج العرب من إسبانيا في القرن الثالث عشر ، وسقوط آخر ممالكهم (غرناطة) " 898هـ ــ 1492هــ ) بدت في الأفق ملامح مرحلة جديدة فحدثت تحولات كبيرة إذ زال حكم إسلامي في الغرب وقامت في الشرق للمسلمين دولة عظيمة سنة 1453م وبدأت خلال ذلك الكشوف الجغرافية التي غيرت مسيرة الحياة البشرية ، وأخذ تكالب الاستعمار الأوربي مع الزمن تشتد وطأته.
***

الصورة الأولى : أسبانيا ...الفتح والضياع


طبيعة الأندلس وتاريخه قبل العرب فقد العرب إسبانيا ، ولكنهم لم يفقدوا أمجادهم فيها ــ بعض الادلاء إما أنها تنقسم الدقة ، وإما أنهم يتعمدون تجاهل الحقائق ــ خروج العرب من أسبانيا جعلها معزولة عن الحضارة ومتخلفة حالياً عن دول أوربا ــ الإسباني المعجب بالعروبة والإسلام ــ محاكم التفتيش وصمة التاريخ الكبرى ــ كان الأسبانيون مولعين بالشعر ، والأدب والفلسفة العربية :
عاثت بساحتك العدى يا دار *** ومحا محاسنك البلى والنار
عندما سقطت للإسلام دويلة في إسبانيا ، قامت له دولة في آسيا الصغرى :
بوركت صحراؤهم كم زخرت *** بالمرواءت رياحاً ورمالاً
إن طبيعة الأندلس لساحرة حقا، فجبال (سيرا نيفادا)و ( سيرا مارينا) تخترقها، ونهر الوادي الكبير الذي جرت حوله معركة الفتح العربي المؤزرة سنة 92هــ ويدعونه بالإسبانية (جواد لكفير Gualwvir ) يتخللها متباهيا من (سيركازورلا ) متجهاً إلى الجنوب الغربي ، ومارا بقرطبة عبر مناطق خصيبة حتى يصب في نهر المحيط الأطلسي .
لقد اجتمعت بالأندلس ميزات يندر أن تجتمع بسواه فمن التربة كثيرة الخصوبة ، الزاخرة بالمنتجات الزراعية ، المتنوعة كالحبوب , ومختلف أنواع الفاكهة ، وقصب السكر إلى ثروته المعدنية التي أفادت منها الشعوب التي حلت به منذ القدم .
وهناك طقسه المعتدل ن وجوه الجميل ، ومناخه الصحي وتضاريسه المنوعة ، بين جبال وسهول ، ومراع ، وأودية ، وأنهار وبحار.
لذا فقد كان مقصدا ، ومجال صراع لمختلف الأمم والأجناس كالفينيقيين ، الذين أقاموا المستعمرات والموانئ (قادس) واليونانيين والقرطاجينيين الذين أسسوا (قرطاجنة) وطردهم من الأندلس الرومان ، ومن ثم عبثت به القبائل البربرية إلى أن أنقذه منهم العرب.
وهنا لابد من الإشارة إلى برابرة أوربا، غير بربر الشمال الإفريقي ، فالأفارقة الشماليون ــ وإن دانوا لفترة بالوثنية وبعضهم اعتنق اليهودية ن ومن أجناس مختلفة ــ فقد كانوا حربا على روما ، وعانوا كثيرا من الظلم والضغط ن فلما وصل المسلمون ديارهم لمساعداتهم ، تدفقوا للدخول في الدين الجديد وقد ساعدوا ــ فيما بعد ـ في الفتوحات الإسلامية ، ومنهم أبطال حققوا المعجزات كطارق بن زياد ، وقامت لهم دول ذبت عن العرب والمسلمين ، واستغرب معظمهم ، مولعين بالثقافة العربية ن ومتكلمين باللسان العربي .
عند الفتح العربي كان القوط الغربيون قد حل بهم الفساد وأصاب دولتهم الضعف ....فما أن خلصت إسبانية من ظلم أباطرة روما . وهجمات الشعوب البربرية المتدفقة من إسكندنافيا وآسيا ، على غرب وجنوب وشرق أوربا حتى تلمس سكانها بعض الاستقرار وشيئا من الأمن في ظل مملكة القوط ، وهذا أقصى ما كانوا يتوقون إليه ــ إلا أنه لم يحدث امتزاج بين الغالبين والمغلوبين ، ففصلت بينهما هوة من الامتيازات السحيقة ن فكأن أهل البلاد الأصليين أشباه أرقاء ، يقومون بكل شيء وكانت مهمة الدفاع عن البلاد منوطة بهم ، ويساقون إلى مزارع النبلاء والأشراف من القوط ويعاملون معاملة أدنى من معاملة الحيوانات.
ومما زاد في سوء الأحوال ، وترديها ، الصراع الذي قام بين الزعماء القوط حول السيادة وسلوك آخر ملوكهم (رودريك) الذي تدعوه المصادر العربية (لذريق).
طبعا قصة الفتح الإسلامي معروفة ــ وإن توقف المؤرخون عند روايات ثلاث هي :
اعتداء الملك القوطي على ابنه حاكم سبتة ، وخطبة طارق بن زياد واحراق السفن ــ والتي بدأت باتصال (يوليان) بـ (موسى بن نصير ) وانتهت باحتلال العرب لشبه الجزيرة الأيبيرية تقريباً.
إن بعض الادلاء إما أنها تنقسم الدقة وإما أنهم يتعمدون تجاهل الحقائق ــ فمر مرشدنا في قصر الحمراء مثلاً أى على ذكر فتح العرب لإسبانيا فقال: (لقد اضطر الإسبان إلى طلب العون من العرب المسلمين بعد أن عانوا الأمرين من الجرمان فجاء العرب ولكنهم لم يخلصوهم ، بل ابتلعوا أسبانيا متنعمين بخيراتها ن فنفعوا بذلك نفسهم أولاً وآخراً.
لاحظوا أنه لم يقل بالمفهوم التاريخي الذي عرف به القوط ، ولم يتطرق للأوضاع التي عاشتها أسبانيا في ظل سيطرتهم ، أو تعرض لكيفية معاملتهم للإسبان الذين كانوا يتسابقون على فضلات الكلاب ايت يمتلكها النبلاء القوط... غاظني ما تناساه ، فأصررت على الرد عليه فبت أتحين فرصة الإنفراد به، وحين واتتني سألته عن مدينته؟ فأجاب ، غرناطة قلت ــ لابد أن دماء عربية تجري في عروقك ؟ قال: " هذا محتمل " ــ قلت لا علينا فالوقت لا يسمح بمناقشة هذا الموضوع ولكنني أحب أن أتعرف إن لم تكن تعرف ، إما أن تتجاهل فهذه مسألة أخرى ــ ثم وجهت إليه سؤالاً هو : هل تعتقد أن العرب بفتحهم لإسبانيا ظلموا شعبها أو اضطهدوها ؟ قال: " لا أظن" قلت : أكيد أنك تعلم أنهم فقدوا أسبانيا بسبب تسامحهم ، وأضاف " وخلافتهم" فقلت : وهذا أيضاً عامل من عوامل عديدة ، ولكنني كنت أتمنى منك إطلاع الزوار على سيرة العرب وسلوكهم، وأنت تعلم ولا شك أنهم لم يكونوا كغيرهم يمسون حرية العبادة ، أو يفرضون لغتهم ، بل إن روعة الإسلام أسلمت لهم القيادة فتفوقوا حضارياً و مسلكياً وعسكرياً ، فلم يمايزوا بين كبير وصغير ، فالجميع سواسية كأسنان المشط أمام الشريعة ، وفي حكم القرآن وسنة الرسول ، لا فرق بين عربي و أعجمي إلا بالتقوى ، وأنهم عاشروا سكان البلاد الأصليين وتزوجوا منهم ، واختلطوا بهم ، فحصل التمازج الذي أذاب الفوارق ، وأقبل على الدخول في الدين الإسلامي ، به يتقيدون ، وبلغة العرب يتعلمون. قال : هذا صحيح فقلت : أريد أن أشير إلى أن زميلك في قرطبة قال عن فتح العرب لإسبانيا.
ولكن المجموعة التي كنت ضمنها ، كان قد اكتمل نصابها ، فما عاد الوقت يتيح فرصة أكبر للحديث معه عما بينه القرطبي بقوله: " إن الإسبانيين ظلوا أكثر من قرنين تحت حكم الرومان، ومثلها تحت حكم القوط ، ولم يتأثروا تأثراً بالغاً إلا بالعرب الذين تغلغلوا في العقول والنفوس" .
وعن تسامح العرب تحضرني الصورة العاكسة للتعصب المسيحي الذي بلغ في الأندلس منتهاه في زمن (عبدالرحمن الثاني) والذي كان بذرة اعتصام فئة قليلة ، في بعض المناطق النائية من أسبانيا ، فكان ما أبداه العرب من العدل والرفق والتغاضي عن الأخطاء الصغيرة ، وحسن المعاملة ، مدخلاً لنفر من الغلاة المهووسين الذين صدمهم التجاوب العظيم مع الحكم ، والعادات والثقافة العربية ، فأرادوا إفساد هذا النموذج الرائع للتعايش ، فلجئوا عندما لم يجدوا وسيلة للتحريض على العرب إلى شتم دينهم علناً ، وقد تخلل هذا السخط الذي لا مبرر له قصة حب بين راهب وشاب ن وفتاة مسلمة ما أبوها وهي صغيرة ، فرعتها أمها النصرانية فنشأتها على كره المسلمين مصورة لها نعيم محاربتهم ، وحين علم أخوها من أبيها ما تضمره تشدد معها ، وضغط عليها ، ويبدو أن انزعاجه من تصرفاتها اضطره لاتخاذ هذا الموقف دون أن يبذل محاولات لإقناعها عن العدول عما هي فيه، فازداد كرها ونفرت نفوراً عظيماً، جعلها لا تبالي بما سيحدث لها ، فانطلقت مدفوعة بعاطفتها القوية نحو الراهب ، ومقتها الشديد لأخيها، وتربيتها غير الإسلامية ، تعاون من تعلق به قلبها في تحريض الناس على الشتم العلني إلى أن بلغ السيل الزبي، وكاد السكوت عن هذه الأعمال يهدد بحدوث فتنة ، فما كان من قاضي قرطبة إلا أن حكم على مثيري الشغب بما يقرره الشرع في مثل هذه الحالة، فأعتقد المغرر بهم أن مصيرهم سيكون الجنة ، فأقبلوا عن جهل وضعف عقل يتسابقون على الشتم لدرجة ممجوجة ، جعلت العقلاء النصارى ورؤسائهم الدينين يعقدون مؤتمراً استنكروا فيه هذه الأفعال، لأن الإيمان لا يكون بهذا الأسلوب الخارج عما يأمر به الدين .
وإذا كان ذو الحصافة قد لاموا هذه الشرذمة، فإنهم كانوا يعرفون رفق العرب في الدعوة إلى العقيدة الإسلامية واللغة العربية ، وأن هذا الرفق في الدعوة من ما يمتاز به الدين الحنيف ، جعل الكثيرين من النصارى يدخلون الدين الإسلامي طواعية ، وأنهم لم يفرقوا بين المسلم وغيره في المعاملة ، فكما أن الزكاة مفروضة على المسلم فعلى غيره الجزية ، فعم الارتياح العظيم لحكمهم ، والحب الكبير للغتهم ، وكان معظم الإسبانيين مولعين بقراءة الشعر والأدب والفلسفة العربية ، وأقبلوا بشغف على تعلم مختلف المعارف الإنسانية بلغة العرب ن لأنها عذبة الألفاظ بليغة الأداء والإنشاء كما ذكر الراهب (دوزي) : ــ
إن قراءة الكتب المقدسة باللغة اللاتينية لا تكاد تجد من يهتم بها ، والشباب الإسباني الذكي لا يعرف إلا العربية ، :ما وأنهم معجبون بها ، وهؤلاء الشباب كانوا يسخرونا من الكتب اللاتينية ويقولون ... إن الفائدة منها لا تساوي التعب في قراءتها"
وهكذا نسي المسيحيون لغتهم ، وجهلوا كتبها ، وزهدوا في بلاغتها، ولكن أمة العرب في عصبيتهم القبلية ، أثناء الفترة الأولى لحكمهم إسبانيا ، فترة ما يسمى بعهد الولادة التابعين للخلافة في دمشق فقد انتقلت إليهم خلافات القيسية واليمانية من عاصمة الخلافة ، إلا أننا لا نستطيع تجاهل العزيمة الجبارة في سبيل الفتح ، ونشر العقيدة ، خلال هذه الفترة ، وحين نتذكرها نجد أبرز معالمها (معركة بلاط الشهداء ) و(عبدالرحمن الغافقي) والتي يعرفها الأوربيون (بيوم يوانتييه ) والحديث عنها من باب التكرار ، لأنها معروفة لا تحتاج لبيان ، فلو انتصر العرب فيها لدخل الإسلام فرنسا وبريطانيا ن ومنها تسلل لمعظم جهات القارة الأوربية ، وعندما نقرأ من نص عربي قديم سنعرف ما كان يمثله به من قوة وشجاعة وتحقيق ما يشبه المعجزات ، قال صاحب النص:
اجتمعت الفرنج إلى ملكهم الأعظم قارله (شارل) ، وهو المعروف بالمصادر العربية القديمة بالمطرقة آنذاك ــ قد حكم بل كان رئيساً للقصر الملكي ، ولكن السلطة الفعلية كانت بيده وقد أنجب شارل مارتل ولداً صار من أعظم ملوك أوربا في قرونها الوسطى وهو شارلمان .
نعود للنص " فقالت له ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب ن كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس ، حتى أتوا من مغربها واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة ، والعدد بجمعهم القليل وقلة عدتهم ، وكونهم لا دروع لهم فقال لهم : الرأي عندي ألا نعترضهم وهم في إقبال أمرهم ، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد وقلوب تغني عن حصانة الدرع ، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ن ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرئاسة، ويستعين بعضهم ببعض ، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر"
ظل الصراع قائماً في الأندلس إلى أن قوض المسودة الحكم الأموي في المشرق ، فأزداد شراسة ، وكان فرار عبد الرحمن بن معاوية من بين أيدي العباسيين رحمة نزلت على سكان الأندلس حين دخلها مستقراً في قرطبة ، ولم يطب له الأمر بسهولة لأمن جهة الولاة الطامعين ن ولا العباسيين المحرضين ، فظل في كفاح مرير ضد الفتن والعصيان ، فما ارتاح له بال أو استقر حال إلا بعد جهد جهيد حتى بات يشك بمن حوله ، يظهر ذلك جلياً في خطبة له جاء فيها" ما عجبي إلا من هؤلاء القوم سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن والنعمة ، وخاطرنا بحياتنا حتى بلغنا منه إلى مطلبنا بالسيوف، ولما آويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله به ..هزوا أعطافهم وشمخوا بآنافهم ...فنازعونا فيما منحنا الله تعالى ... إذ اطلعنا على عورتهم ، فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا، وأدى ذلك إلى أن ساء ظننا في البريء منهم ن وساء أيضا ظنه فينا .. وصار يتوقع من تغيرنا عليه ما نتوقع نحن منه" .
ومما يجدر ذكره أن عبدالرحمن بالإضافة إلى فروسيته وجلده وقوة جأشه وحسن تدبيره ، وحصافته ، كان شاعراً وخطيباً بليغاً.. ومن شعره المعروف قوله متشوقاً للشام:
أيها الراكب الميمم أرضي *** اقرأ مني بعض السلام لبعض
إن جسمي كما علمت بأرض *** وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا *** وطوي البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا *** فعسى باجتماعنا سوف يقضى
لقد ثبت عبدالرحمن حكمه بأخواله البربر ... واستطاع أن يفرض هيبته، فقضى ــ بعد عناء ــ على التفرقة فتحاب الجميع وترابطوا ، ولكنه لم يتلقب بالخلافة ...فلماذا ؟
ذلك مرده ــ كما يعتقد بعض المؤرخين ــ إما لأنه لم يحكم الحجاز وإما لبعده عن مركز عصبيته...فابن خلدون يقول :
" إن عبدالرحمن لم يتخذ سمة الخلافة تأدباً منه في حق الخلافة بمقر المسلمين ومنتدى العرب" وقد يكون أيضاً" ... والمسعودي يذكر :
" أن الخلافة لم يكن يستحقها عند بني أمية إلا من كان مالكاً للحرمين الشريفين " وقد يكون السبب عدم رغبته في الاصطدام بالعباسيين الأقوياء ، وأنه بصعوبة أقر الأحوال بجهته ، وكان ينتظر الوقت الذي يحين به تحقيق ما في نفسه ن ولكن هذا الوقت لم يحن إلا في عهد عبدالرحمن الثالث الذي لمس ما أصاب الدولة العباسية من الضعف حيث غدا الخلفاء العوبة في أيدي الخدم والعبيد ، وتقاسمها الشعوبيون عملياً.
وفي عهد الداخل جرت معركة وجد بها الأوربيون مجالاً رحباً للخيال والمبالغة ن والتزوير الافتراء على العرب ، وكان الهدف منها تحقير الإنسان العربي حقداً وكرها له ونعته بما ليس فيه ، فألف شعراؤهم ملحمة أضيف إليها فيما بعد ــ عدة ملاحم تولدت منها وهي (أنشودة رولان)
وأصل الحكاية أن ولي كل من برشلونة وسرقسطة العربيين تحالفا ضد الداخل، فطلبا مساعدة شارلمان الذي وافق بعد أن اشترط عليهما تسليمه بعض الحصون، فلما عبر البرينية إلى سرقسطة ، وكان يتوقع انتظار حليفيه ، ولكنه وجد الخلاف دب بين الحليفين ، حيث تحصن واليها فيها ن فأنضم والي برشلونة إلى شارلمان لمحاصرته ن بيد أنهما فشلا، ولما ينس شارلمان من دخول المدينة لشدة مقاومتها ، طلب من والي برشلونة تسليم ما وعد به ، فأبى الاستجابة لمطالبه ، فقبض عليه وعزم على الرجوع إلى بلاده غير أن أبنى الوالي لحقا بشارلمان بينما كانت جيوشه تعبر ممر (رونسفال) ولم يتمكنا إلا من مؤخرتها ، فانصب عفهما عليها حتى سحقها تقريباً، وكانت خسارة شارلمان كبيرة بهذه المعركة ففقد أمهر قواده ومن ضمن هؤلاء رئيس بلاطه (رولان) بطل الأنشودة المؤلفة من أربعة آلاف بيت خلال ثلاثمائة سنة ن وقد اهتمت بشكل خاص على نفخ رولان بالبوق لإسماع سيده ، وصورت عودة شارلمان مشتتاً شمل قتله رولان بعد سماع النفخ بالبوق دون أن يستطيع إنقاذه لأنه كان في رمته الأخير ، وطبعاً هذا لم يحدث لأن شارلمان لم يعد لإنقاذ مؤخرته، بل فر خوفا من أن يلحق به ما لحق بمحفظ قصره ورئيس خاصته... ورئيس بلاطه.
لقد خلق الداخل بقوته ن وحنكته ، وشجاعته دولة في أسبانيا موحدة قولة الأركان، ووطد فيها الأمن والاستقرار ، فأخذ العقل العربي ينمو حتى بلغ النضج فالنبوغ. فزهت الأندلس " بحضارة إسلامية مادتها من الشرق ــ على حد تعبير أحدهم ــ وبناتها من الغرب وكانت النور الوحيد الذي انبعث في أوربا المتخبطة في دياجير الجهالة ، والراسفة في أغلال الظلم ، فاقتبس الأسبان ثقافة العرب واعتنق الكثير منهم دينهم ، ,تحدثوا بلغتهم ، وشغفوا بأدبهم ، فقامت المدارس ، وأنشئت المكتبات العامة، ونشطت حركة
استسلام غرناطة ، صورة شهيرة للرسام بريديلا


التصنيف والتأليف ، ونهض الأدب ، وارتفع شـأن الفنون ، فعقدت مجالس المسامرة ، والمناظرة والغناء ، استمرت في رفعة ، ومن حسن إلى أحسن ، حتى بلغت أوج مجدها وغاية عمرانها وتمام بنيانها في عهد الخليفة عبدالرحمن الثالث ، ابنا الحكم ،. الذي كان أهم شيء في حياته الجانب الثقافي ، فلقب بـــ (دودة الكتب)، وفي عهدهما صارت اسبانيا غاية في القوة والسطوة والثروة ، .فنافست بغداد ...بل فاقتها وقال أحد المؤرخين الأسبان المعاصرين عن عبدالرحمن الناصر :
(إن عبدالرحمن الناصر أولى أن يكون من ملوك العصر الحديث، لا من ملوك القرون الوسطى ).
بعد وفاة الحكم بدأت مؤشرات الخلاف في بني مروان تظهر إلى أن آل سلطان إسبانيا لملوك الطوائف الذي أوهن كواهلهم داء الانقسام ، وفساد النظام ، وزاد البلاء ضغثاً على أبالة التحرك النصراني الفعال ، ورغم انتصار العرب في (الزلاقة) حيث استعان المعتمد بن عباد بــ (يوسف بن تاشفين) الذي هزمت جيوشه في الأندلس جيوشي (الفونس السادس) ملك قشتالة .. حتى طمع الملك المرابطي بأخوته في الأندلس واستولى عليها فورثة عليها الموحدون الذين خلفوا دولة المرابطين في إفريقيا، ومن ثم تكاتف الفرنجة فسلبوها من أيديهم مدينة مدينة، وهذا ما جعل ابن عباد يختار رعاة الجمال على رعاة الخنازير ن فكان نصيبه السجن في (أغمات )، وقد قال وهو في قمة مأساته حينما دخلن عليه بناته في يوم يعد وهو سجين :
فيما مضى كنت في الأعياد مسروراً *** فجاءك العيد في أغمات مأسوراً
ترى بناتك في الأطمار جائعة *** يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
يطأن بالطين والأقدام حافية *** كأنها لم تطأ مسكاً وكافوراً
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا
ولكن ماذا أفاد العرب من تفتح أذهانهم ؟ ... لقد أعطوا بعبقرية ونبوغ ،. ولكنهم ــ وإن سُلبوا أكثر مما أخذوا ، لأنهم كانوا بالعصبية محكومين ، وعلى الرئاسة متحاربين ، فلم تؤثر البيئة في طبائعهم الصحراوية رغم تكيفهم معها ، وتمتعهم بالطبيعة الجميلة ، والأجواء المتغيرة والمناظر المختلفة ، والأمطار المتصلة ، ,الخمائل والأدواح ، والسهول والمروج والجبال
بكل هذه صفت وجدانهم ، وعقولهم ، ولكن قلوبهم لم تصف ، فحملوا الضغائن لبعضهم ، وعلى دروب الإبداع رقت أحاسيسهم ، ولما ضاقت على شعرائهم أوزان الشعر استحدثوا الموشح ... قال ابن بقي:
بأبي ريم إذا سفرا
أطلعت أزراره قمرا
فأخذوه كلما نظرا
وقال بن سهيل :
هل درى ظبي الحمي أن قد حمى *** قلب صب حله من مكنس
فهو في حر وخفق مثلما *** لعبت ريح الصبا بالقبس
يا بدورا أطلعت يوم النوى *** غررا تسلك في نهج الغرر
وعارضه لسان الدين ابن الخطيب:
جادك الغيث إذا همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا وحلما في الكرى أو خلسة المختلس
وقال بن خفاجة :
يا أهل أندلس لله دركم ماء وظل وأنهار وأشجار
وفي وصف الأندلس قال ابن الخطيب : ( خص الله تعالى بلاد الأندلس ، من الريع وغدق السقيا ، ولذاذة الأقوات ، وفراهة الحيوان، بما يحرمه الكثير مما سواها من البلدان) ...وغيره قال الكثير الكثير.
المهم هذه النعمة بددتها الخلافات ، فأضاع العرب بسببها الأندلس ، حيث قوى أعداؤهم ، فتوالى سقوط دويلات الطوائف العربية واحد إثر أخرى ن الأمر الذي شجع الفرنج علىرص صفوفهم ، فأسقط الفونس الاول (جيليقيا وليون)بعضها ، وتلاوة الفونس السادس فاستولى على (طليطلة )، فقال الشاعر العربي يرثيها:
لثكلك كيف تبتسم الثغور *** سروراً بعد ما يئست الثغور
طليطلة أباح الكفر منها *** حماها... أن ذا نبأ كبير
وجاء الفونس العاشر فطرد العرب من قادس ، والحادي عشر تمكن الاستيلاء على طريف.. واستمرت انتصارات النصارى على المسلمين في إسبانيا حتى سقطت غرناطة آخر ممالك العرب فيها ... وبما أن الشعر ترجمان الشعور فقد تأثر ابن خفاجة بما حل ببلنسية فقال:
عثت بساحتك العدى يا دار *** ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر *** طال إعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها *** وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها *** لا أنت ولا الديار ديار
قال العسال عندما احتل النومانيون مدينته:
هتكوا بخيلهم قصور حريمها *** لم يبق لا جبل ولا بطحاء
جاسوا خلال ديارهم فلهم بها *** في كل يوم غارة شعواء
باتت قلوب المسلمين برعبهم *** فحماتنا في حربهم جبناء
بلغ النصارى غاية قوتهم بزواج ( إيزابيل ) ملكة قشتالة و(فرديناند) ملك أراجون ، فتوحدت قوتهما فأطلق عليهما ( العاهلان الكاثوليكيان) ، وقد استطاعا أن بتما ما كان بدأه من سبقهما ، وهما اللذان اغتصبا غرناطة من بني نصر ، الذي ظل أثرهم الخالد حتى الآن يحكي قصة المجد العربي.
إن سقوط غرناطة شكل تحولات خطيرة في تاريخ الإنسانية ، وسجل مسارا لها يختلف عن سابقه ، فبسقوطها انقضت مرحلة وبدأت أخرى ..وانتهت عهود وبدأت أخرى وما صحب هذا من تغير ثقافي ، اجتماعي ، وسياسي، واقتصادي، ومن تبدل في الأفكار والمفاهيم واكتشافات وفتوحات..
ثقافياً: عادت إسبانيا القهقري فاحتلت المؤخرة بالعهد المسيحي بجدارة بعد أن كانت تحتل مركز الصدارة في العهد الإسلامي.. وذلك بسبب الاضطهاد الذي مارسه الساسة الجدد.. وإطلاق أيدي رجال الدين الغلاة في قتل ، نهب ، وحبس، وتشريد المسلمين .. فصارت محاكمهم لعنة من لعنات التاريخ الكبرى ، لكونها كانت وصمة عار لا تنسى حيث لم تكتف بسوق المسلمين إلى المقاصل وإجبارهم على اعتناق النصرانية والتجسس عليهم للتأكد حتى شعر كل إسباني بأنه غير آمن من مخالبها ، وإنما تطورت فصارت تراقب الفكر .. ومن لم يخرج ظل متخفياً يظهر المسيحية تقية .. ويبطن الإسلام ، ويبدو لي أنه حتى الآن يوجد مسلمون لا يستطيعون إعلان إسلامهم رغم زوال الاضطهاد والتعصب .. ولكنها ظلت عادة ألفوها وما زوال استطاعوا الخلاص منها ــ وإن الفكر الخلاص منها ــ وإن عرف أحدهم بأنك مسلم فإنه يفخر بأصله العربي ، ويبدي لك إعجابه بالإسلام .. ويلمح ولا يصرح ، حيث لا يزال للكنيسة في إسبانيا بعض النفوذ والسلطة .
لقد أصاب التأخر كل أيبيريا.. عمها التخلف ... فغدت بعد ترك العرب لها معزولة عن الحضارة الإسلامية مما جعلها الآن من أكثر الدول الأوربية فقراً وتخلفا ، لأن ساستها المتقدمين أعماهم حقدهم ، فلم يجعلوا بلادهم تستفيد من نبع الثقافة العربية الدافق كما فعل الملك الصقلي ــ وإن تفوق الأسبان في فترة لم يكن تفوقهم أصلاً ــ فسرعان ما هوت الإمبراطورية ، بسبب معاناتها ، الثقافية الشديدة بعدما حاقت بها الأزمات فانحطت قيمتها حتى قيض الله لها (فرانكو) الذي تمكن من إقرار الأمور ، فالتفت الإسبانيين للتراث العربي في إسبانيا ، والآثار الإسلامية ، وحافظوا عليها بمعونة بعض المؤسسات والجامعات العالمية ، فأقيمت تماثيل لابن حزم ، وابن زيدون وابن حيان وأولاده ، باعتبار أن التراث العربي في إسبانيا يعتبر ملكاً للإنسانية.. واهتم الأسبان بذلك للمردود المادي الكبير الذي يشكل دخلا قوميا كبيرا في ميزانية دولتهم..
نعم ، جنت محاكم التفتيش على جناية لا تغتفر على إسبانيا فسبقتها إلى النهضة كل أوربا تقريبا بفضل تعويلها على التراث العربي الذي حاربه الغلاة .. فتخلفت عن غيرها. هذا التحول الثقافي بعد خروج العرب ، تبعه تحول اقتصادي تمثل في الاكتشافات والاختراعات ومن ثم جاء التحول الاجتماعي بعد الانقلاب الصناعي والثورة الفرنسية.
ويبدأ أخيراً مسار للسياسة جديد ..حتمه المجال الحيوي لكل دولة كبرى ..فاستشرى شر الاستعمار الذي اعتمد على المطامع ، وبحمد الله انقضى عهده.. ولكن ذيوله بقيت آفة على الأمم والشعوب .. فاستحدثت أفكار ومفاهيم تغاير ما كان سائداً.. والخوف من صراع المعسكرين.
بسقوط غرناطة .. انتهي الوجود الإسلامي في أوربا في نفس العام الذي تم فيه اكتشاف العالم الجديد بعد رحلة الإيطالي (كريستوفر كولمبوس) برعاية عاهلي أسبانيا ، وقبل ذلك كان محمد (الثاني أو الفاتح ) قد أنجز فتح القسطنطينية ، وجعلها مدينة للإسلام الذي قامت له دولة قوية بعد انهيار دويلته الضعيفة .. فأخذت الجيوش العثمانية تدق أبواب أوروبا التي أصابها الذعر .
وهكذا نرى العرب خسروا آخر معاقلهم في إسبانيا وخسر الأسبان مركزاً للإشعاع في ديارهم ، خسر العرب إسبانيا بسبب ما قام بينهم من الفتن والمشاحنات الطويلة ، وخسر الأسبان مكانة حضارية كانت تتمتع بها بلادهم، بسبب محاولات ملوكهم ورهبانهم القضاء على كل مظهر من مظاهر الحياة العربية .. في شبة الجزيرة الإيبيرية ، خسر العرب إسبانيا ، ولكنهم طبعوا أمجادهم فيها ــ وان ضاعت ــ فقد ظلت آثارهم تحكي حكاية قوم بالترحاب قوبلوا .. وبالحب ملكوا .. فوفروا للناس إكسير الحياة في زمن مضى .. وعن أمجاد العرب في الأندلس التي يبدو تأثيرهم فيها أكثر وضوحاً حتى من بعض البلدان العربية يحار المرءويتيه منشدة الإعجاب .. وحب أهلها الذين يشعرونك بالقرب منهم

الصورة الثانية : ـــ الناس والحياة في الأندلس




الإسبانية التي تسبه الكبسة السعودية ــ جنوب إسبانيا ينحرون الذبائح في عيد الأضحى ــ ليس غريباً أن يطول الحديث بين أسرتين صديقتين في عرض الشارع العام ــ ما يدعو للإعجاب أن العهر الجهري محدود رغم أن إسبانيا بلد سياحي من الدرجة الأولى .
أخذ التأثير العربي مداه الواسع في حياة الشعب الإسباني .. وظل أثر القرون الثمانية التي حل بها العرب فيها مائلاً للعيان في حياة الإنسان الإسباني المعاصرة ــ وبالأخص ــ الجزء الجنوبي منها المعروف بالأندلس .. حيث بلغ درجة ملحوظة بوضوح في كل شيء .. فبدت فعاليته رغم رغم محاربته ــ في البداية ــ متجلية ــ ليس فقط بالملامح ــ بل في أخلاق الناس ولغتهم وتقاليدهم .. وعاداتهم وتصرفاتهم وأطرزة مبانيهم ، وتأثيث بيوتهم ، فمصلاً من المألوف أن ترى التقبيل بين الرجال ، وهذه عادة ــ كما هو معروف ــ ليست موجودة في بقية القارة الأوربية حتى بين الأخوة ــ وإن طال غياب بعضهم عن بعض سنين عديدة ــ والمصافحة في الأمكنة العامة أيضاً ــ حتى إن لم تظل فترة الغياب ولا يعرفك معرفة صداقة ــ وذلك بعكس ما في أوروبا .. حيث يكتفي الإنسان عندما تقابله بالشارع بالتلويح بيده أو بإيمائه من رأسه لأقرب الأصدقاء إليه ..
كما أنه ليس مستغربا رؤية صديقتين تلتقيان صدفة في أحد في احد الشوارع العامة فيطول الحديث بين أفرادها، وترتفع أصواتهم بعبارات المجاملة أو العتاب في عرض شارع مزدحم .. ولا تعجب حين تجدهم يقذفون ما في أيديهم في الأرض .. ولا يكلفون أنفسهم بالبحث عن صناديق الفضلات ، وقد حدث أن كنت راكباً عربة (كارو) وكان في يدي عقب سيجارة أردت التخلص منه ظانا أن في العربة مرمدة أجهل مكانها .. فسألت سائقها فقال مشيراً للأرض ما فهمت ألا عليك أن رميتها على الأرض وهذا الأمر يبدو لي : أن بريطانيا المتشددة بدأت تتخلى عن تشددها بعد الغزو السياحي العربي الذي حدث في السنوات الأخيرة ـ لاسيما ــ في لندن التي خرجت عن وقارها فتحكم كبرياؤها على صخرة العجز المادي في ميزانيتها التي أنقذتها من التدهور السياحة العربية .. فبتنا نرى أحياء فيها تخلت عن إنجليزيتها مفضلة الربح من خلال الكرم العربي الذي لم يألفه عبيد المال .. فتسابقوا في سبيله لخدمة السائح العربي الذي يلتذ بالعطاء أكثر من التذاذه بالأخذ.
أما إسبانيا ..فهذه طبيعة في أهلها لا افتعال ... والجميل أن فوضوية الأندلسي منتضمة بانضباط غير قاس... حيث تتسم بالأدب الجم وحب الغريب .. والرغبة في التحدث إليه.. وخدمته .. فصار بمسلكه هذا في موقع وسط بين الأوربي والعربي .. فهو بحكم تأثر ماضيه البليغ فيه ما زال نظراً للاتصال الديني والعرقي والموقع الجغرافي والعلاقات الثقافية ..فامتص بهذا خلاصة روح حضارتين ..بحيث بدأ ساسة إسبانيا المعاصرون يدركون طبيعة العصر وفضل العرب ويقدرون مواقفهم القومية.
أما ما يتهم به الأوربيون الأسبان .. فإنه عتقاد خاطئ لأن البساطة والطيبة والتواضع ، وهي صفات يتحلى بها الأسبان تقريبا .. لا تعني السذاجة .. والغباء ــ وإذا كان الإسباني لا يجيب بسرعة ــفمرد ذلك كما يظهر لي ليس عدم الفهم السريع ، بل حواجز تاريخية ولغوية ونفسية فالأسباني بطبعه يكره التعالي والظهور بمظهر المغرور..وإن عمل في فرنسا أو إنجلترا عملاً متواضعاً فهذا لا يعني أنه أدنى مستوى من غيره ولكن بعض الأسبان حكمت عليهم ظروفهم بذلك .. ومادام الإنسان يعمل بجد وإخلاص يجب أن يقدر مهما يكن نوع عمله.
وإذا كان الهولندي الذي التقيت به في (ميدرجال) قد أخذ يحدثنا عن أسوان التي أقام بها قرابة الأربع سنوات ، وأنه مقيم منذ خمس سنوات في أسبانيا يعاني كثيراً كما يزعم ــ من غباء أهلها وقال أيضا أنه وعد زوجته بزيارة للبلاد العربية التي يعشقها .. إذا كان يعتقد أن الاستجابة لطلباته واجبة لأنه أرقى مفهوماً بسبب انتمائه لبلد متقدم على البلاد التي يكسب عيشه منها ، فإنه يعيش وهماً كبيراً، فليس كل من يعمل في بلد غريب عن بلده ــ وإن يكن البلد متخلفاً نسبياًــ أن يكون بالضرورة أفضل من مواطني هذا البلد المتخلف أو النامي .. فالبد أن فيها من هم أكثر منه فهماً ومعرفة .. بالأشياء ــحتى وإن يكن هذا البلد في أقصى حالات التخلف ــ فما بالك بأسبانيا التي سادت سنين طويلة . والآن هي تحسب من البلدان تقريباً ، كذلك التفاضل بين الناس بالخلق الحسن ، ومعرفة النفس ، وتقدير المسئولية ..قبل أن يكون بالخبرة العالية والشهادات والأوسمة والمناصب ..وأني لا أستبعد أن من يتصل بهذا الهولندي من جيران وزملاء ومرؤوسين ورؤساء قد لمسوا فيه تغطرساً فتجاهلوه تجنباً للشر .. فظن أن تجاهله
غباء منهم بينما لو علم بأنه أشد احتقاراً لتراجع وهذه عادة يحتمل أن الأسبان قد ورثوها عن العرب ــ لاسيما بالنسبة للإنسان الذي يرى نفسه كبيرا.. وهو لا يساوي شيئا .. فالند اعتاد العرب على احترامه .. وتقديره وعدم تجريح رجولته .. وأخلاقه حتى بالنسبة لأكثر الناس عداوة لهم..
ولكن الأوربيين للأسف ، مازالوا رغم ما أصابوه من التقدم وأحرزوه من الحياة يعيش أغلبهم في مفاهيم القرون الوسطى ، ويفكر رغم تحرر الشعوب تفكيراً استعماريا، يقوم على التفرقة بين الأسود والأبيض ، والتمييز بين جنس وآخر ، .. وعدم الاعتراف بالجميل ،أو تقدير التضحيات السامية ، والمواقف النبيلة ، أو القيم المثل العليا .. فيحاربون كل دعوة تستهدف الإنصاف يخرجهم عن المرتبة الإنسانية .
إن الجنوب الإسباني مهم لكل عربي وعزيز عليه ، لأنه شهد أول وأورع انتصار عسكري للعرب، في القارة الأوربية ن وفيه انكسروا أفظع انكسار .. وعلى أثره انبعثت معطيات عربية أفاد منها العالم أجمع ، وفي العهد العربي زهت الأندلس التي استجاب أهلها لكل ما هو عربي .. فازدهرت الصناعة وراجت التجارة وارتفع شأن الثقافة فراح الأندلسيون يتسابقون على دخول الدين الإسلامي ، وتعلم لغة القرآن ، وقراءة الآداب العربية .. فالأعجب والحالة هذه أن تجد 40% من مفردات اللغة الإسبانية تعود في مشتقاتها إلى أصل عربي وتلفظ كما هي مع شيء من التحريف البسيط .. وأن ترن في أذنك كثير من الأسماء العربية أو المعربة كالجزيرة وبلد الوليد وجبل طارق والطرف الآخر ..الذي كان يدعوه العرب (طرف الغار) وجرت عنده المعركة المعروفة باسمه سنة 1805م بين الأسطول الإنجليزي بقيادة (نيلسون) و الأسطول الإسباني بقيادة (فيلنيف) والذي أخذ منها اسم الميدان الشهير في لندن(traf algar squair) ، والكالدي المشتقة منكلمة القاضي العربية ، وكان مفهومها بالإسبانية القاضي ذي السلطة الإدارية ، فصارت الآن تطلق على رئيس السلطة المحلية .
ويقال إن الناس في جنوبي إسبانيا ينحرون الخراف والأبقار في أيام عيد الأضحى الآن ..فيقولون في المدن (عيد السماء ) وفي الأرياف (يوم مكة ) .. فيذبح الكثيرون منهم الذبائح زاعمين أنه تقليد إسباني يختص به سكان الأندلس ، ومما يلفت النظر أيضا أكلة شعبية مشهورة في كل إسبانيا تشبه إلى حد بعيد الكبسة بطبخها وشكلها لولا الخليط العجيب من اللحوم المأخوذة من شتى أنواع الحيوانات البرية والبحرية والطيور .. وهذه الأكلة يسمونها (البيئة) .. أي بقايا الأطعمة .. ومعناها من لفظها الإسباني بأنها تحريف (للبقية ) ولابد أنها دخلت أسبانيا مع العب .. ولكن لحقها تعديل لا يبدو لي أنه حسنها.
لم يقتصر تأثير العرب في أسبانيا على عادات وأخلاق الناس وأساليب حياتهم ، بل أن تأثيرهم الأعمق رغم ومحاربته ومحاولات إهماله بعد خروجهم من إسبانيا ساعدها كثيرا في نهضتها الحديثة وأعطاها بعدا مميزا ..وذات مستقلة وخصها بنكهة خاصة من الآداب والفنون والألعاب .. فالرقصات الشعبية الإسبانية المعروفة في جميع أرجاء العالم ، والغناء الشعبي الإسباني يبدو التأثير العربي فيهما . وما الجيثار إلا تطوير لعود زرياب ، وفي الأدب نلمس هذا التأثير في معظم إنتاج شعراء وأدباء إسبانيا العظيمة أثناء الوجود العربي عاملا مهما في عمليتي التأثر والتأثير ..حيث تلاحقت الأفكار وتطعمت الآراء مع ما لحق ذلك من التطور الذي نلحظ في قيم واتجاه الإنسان الإسباني المعاصر.
ومن الرياضيات المشهورة في العالم كله .. لما لها من شعبية كبيرة برع بها الأسبان بشكل خاص وأدخلوها إلى معظم الدول الأمريكية فعشقها الكثيرون (مصارعة الثيران) وبالمناسبة فالثور بالإسبانية اسمه (تورو) ويرجع كثير من الباحثين بدايات هذه الرياضة للعهد في شبه الجزيرة الأيبيرية ، فالعرب كما يعتقدون... مارسوا لعبة مشابهة أقبل على مشاهداتها وممارستها الناس .. ويرى بعضهم أن هذه اللعبة لم تظل على حالها المعروف إبان وجود العرب في إسبانيا .. فلحقتها تغيير حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.
ولكن السؤال: كيف انتشرت هذه اللعبة الوحشية في إسبانيا ، المكسيك ومعظم دول قارة أمريكا الجنوبية .. وعرفت فقي العالم كله بينما هي معدومة في العالم العربي ..؟
أما كان الأولى أن تكون معروفة في البلاد العربية التي منها انطلق العرب إلى ك القارات المعروفة أثناء تفوقهم؟!..
يظهر أن للهجمة التترية على الشرق الأوسط أثرها على النفسية العربية التي عزفت عن الممارسات المفرحة حزنا على الضحايا والتراث زمنا طويلا أنسى العرب هذه الرياضة .. وفي إسبانيا ظلت تمارس بأشكال مختلفة نتيجة ما أصابها من تحول بعد طردهم منها مباشرة تمثل في تحريف كثير من مخلفاتهم وإنجازاتهم

قرية أندلسية الطابع
التي حققوها خلال ثمانية قرون .. فقامت دعوة تطالب بالقضاء على كل ما يمت لهم بصلة بغية التخلص من تأثيرهم .. ولما كان الأسبانيين حينذاك ــ عاجزين عن الابتكار أو التأثير الهاضم عمدوا إلى التشويه مما ترتب عليه تحول كثير من الأشياء ومن ضمنها الرياضة العربية الراقية ..التي غدت رياضة وحشية يمجها الذوق ، الأمر الذي يتنافى مع طبيعة الإنسان العربي الرحيمة .. فالمعروف عنه رفقه بالحيوان ــ لاسيما النافع الأليف ــ وهو محب له ولطالما رعاه وتباهى به .. فافتخر بفرسه، وجعل مكانتها في قلبه تساوي مكانه أحب أولاده وغنى لناقته وشبه الأقوياء الأشداء بالحيوانات القوية الصابرة ، وعشق الصقور واهتم بكلاب الصيد ، وهام بالريم .. كما أنه لا يمكن أن يخالف تعاليم دينه فيمارس العنف على الحيوانات ويحتمل كذلك أن الاهتمام بتربية الحيوانات في الأندلس ومن ثم تكاثرها دفع الناس للبحث عن تجارة يفيدون منها فشاعت مصارعة الثيران حتى أصبحت تجارة رابحة .. فصارت تقام مصارعة الثيران الحفلات والمباريات على ملاعب كبيرة تزدحم غالبا بجمهور غفير ، بعضهم يشجع المصارع ، والبعض الآخر يشجع الثور ..ويشارك المصارع على الحلبة ــ معظم المصارعين يتمتعون بشهرة نجوم السينما ــعدة لاعبين يطلق عليهم (حملة الأعلام ) ..ومهمتهم بذل المحاولات لإثارة الثور المعد خصيصاً بقطع من القماش الزاهية ألوانه .. وإلى جانبهم .. (حملة الحراب) وهم الذين يركبون الخيول ومنها يقذفون الثور بالحراب ، وهناك ملاعبوا الثور ، ويناط بهم إلهاء الثور وتحويل أنظاره هذا ومصارعة الثيران تعتبر في إسبانيا والبرتغال والمكسيك، وبعض دول أمريكا اللاتينية الرياضة الوطنية المحبوبة عند الجماهير .. ومما يلاحظ زائر إسبانيا رؤية ثور كبير عند مدخل كل مدينة وقرية..
حتى في ذروة قوة الإنسان وأوج كرههم للعرب .. بعد إكتشاف الإيطالي (كولمبوس) لأمريكا ،سموا كثيرا من البلدان في العالم الجديد بأسماء مدن إسبانية، إما جميلة ، وإما تاريخية تماماً كما سمى العرب اشبيلية(حمص ) وغيرها من المدن الأندلسية لتذكرهم بموطنهم في الشام .. فسموا قرطبة في الأرجنتين ، وفلنسيا في فنزويلا ، التي تشتهر المنطقة الواقعة فيها بحديقة أسبانية لكونها من أجمل البقاع .. وأكثرها خصوبة ، والحقيقة أن كل ما يراه في الأندلس ينطبع بالطابع العربي ، بنسب متفاوتة سواء في الناس أو في الأشياء كالأزقة الضيقة ، والحواري التي تذكرنا بحواري دمشق والقاهرة ، وتونس ، وبغداد ، وفاس .. وذلك في أشكال المنازل المتميزة بنوافذها العربية على أوربا .. وزينتها المستوحاة من الشرق حتى الكنائس تبدو عندنا كالمساجد .. ومرد ذلك الثمانمائة عام التي أقام العرب فيها بإسبانيا، وهذا أمر طبيعي حدوثه" .
ولكن غاب عن صديقنا أن التفوق حين يكون مصحوبا بالعدل والتسامح يجد الاستجابة السريعة فتتحدى العقول والعزائم الصعوبات ، وتذلل وعورة المسالك .. حيث تتمهد السبل نحو بلوغ الغايات فتحقق أفضل حياة يستظل بظلها الناس المتعاملون مع بعضهم برفق وشرف وأمانة .
وقد كان العرب قوما يتحلون بأجمل الصفات.. فاجتمعت فيهم مقومات أدهشت كثيرا من المهتمين بتاريخهم ،وتراثهم ، وسير حكامهم ــ فيما مضى ــ فإنقاذ الناس لهم ، وتفتحت المواهب برعايتهم .. وأقرب مثل نأخذه من إسبانيا العربية، ما حدث إبان إمارة عبدالرحمن الثاني الذي ضرب مثلا بالحلم والصبر والتسامح فتمادت زمرة موتورة لا شأن لها متجرأ على الشكل العلني وقد لمس قاضي قرطبة الذي لم يكن يقل عن الأمير حلما وتسامحا فأراد أن يتجنب هؤلاء المغالين من المسيحيين العقاب فنصح أحدهم على حد رواية ستانلي لين بول بأن لا يتمادى بما هو فيه كي
يتفادى العقاب فقال له :((اذهب يا بني لا يسمعك ولي الأمر فيأمر بقتلك)) مربتا على كتفه ومبتسما في وجهه فذهب هذا مجاهرا بالشتم . فلما بلغ في تجاوزاته حدا لا يطاق صدر عليه الحكم الذي يستحقه ، فسيتقبله مرحبا لاعتقاده الفاسد بأنه سينضم إلى زمرة الشهداء والقديسين .
كما أن الإسبانيين.. حين تقارنهم بعالم القارة الأوربية ، تجدهم محافظين .. ومما يدعوا للإعجاب حقا أن العهر الجهري محدود في إسبانيا .. والميسر إلى ما قبل سنتين كان ممنوعا .. ولا أدري الآن هل أقاموا كازينوهات للمقامرة أم عدلوا عن هذه الفكرة ، فخلال وجودي فيها علمت أنهم يفكرون بفتح أندية للميسر .. بعد أن يجري تعديل القانون الناص على ذلك بحظرها ، وذلك لأن بعض المخططين توهم أ، افتتاح مثل هذه الأندية سيساعد على اجتذاب السياح .. ولكن يفكر هؤلاء بشيء جوهري من شأنه مضاعفة الأعداد مثل تحسين الخدمات أو بيسير المعاملات وتسهيل السفر لبلادهم رغم أن أسبانيا تعتبر في هذه النواحي من أحسن البلدان ، إلا أن التوقف عند حد معناه التجمد ؟ . وفي هذا المجال نجد أن بريطانيا ــ لا زالت رغما من سقوط عظمتها سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا وأمنيا ، وحاجتها الماسة للسياح تتدلل بمنح تأشيرات دخول لأراضيها؟!.
إ ن أغلب الذي يؤمون أسبانيا في جميع فصول السنة لا تنقصم هذه النوادي في ديارهم ، ومعظمهم إما من طلاب المعرفة ، ومشاهدة الآثار العربية وغيرها ، والإطلاع على أمهات الكتب ونوادر المخطوطات التي تحفل بها مكتباتها العامرة بشتى ثقافات الأمم .. وإما طلاب راحة واستجمام في (مايوركا) وجزر الكناري . والتمتع بمناخها الدافئ أثناء الشتاء ، المعتدل إبان الصيف.
من هنا تنبعث عظمة رجل اسبانيا الراحل ، الذي استطاع أن يخلص بلاده من الشيوعيين ، والفوضويين ، ودعاة الديمقراطية المزيفة ..فجعل منها بلدا مفتوحاً وبالكل مرحبة ، بعدما قضى على الفتنة وانتصر على معارضيه .. في الداخل والخارج .. وفي الغرب والشرق..فشمل ربوعها الأمن متنعمة بالاستقرار حتى أن نسبة الجريمة فيها قياسا بأوربا المنغمسة بها حتى الرقاب .. لا تكاد تذكر .
نعم لا غرو أن تبدو الأشياء مسلمة في أسبانيا ، رغما على التعصب المسيحي الأعمى من قبل حكامها ، ورهبانها الذين تولوا إدارة شؤونها بعد ترك العرب لها .. فأضروا بها من حيث ارادو نفعها بسبب قصر نظرهم ومحدودية مفاهيم .

الصورة الثالثة: ساحل الشمس وميناء غرناطة العربي


مدينة بيكاسو خالية بالليل صاخبة بالنهار ــ مشكلة اللغة ومشقة التفاهم بالإشارة ــ نسمة الجنوب التي يغار الشاعر على حبيبته منها ــ المناظر الخلابة والشواطئ الجميلة والفيلات الأنيقة.
حطت بنا الطائرة الصغيرة ذا ت المحركات .. والتي أحسسنا فيها بالضيق حين أقلعت بنا .. فأخذ الهواء يلعب بها ولكن حمدنا الله إذ لم تلبث طويلاً حتى هبطت بمطار ملقه، لأن المسافة بينهما وبين طنجة ليست طويلة وكان الليل قد انتصف ، فوجدنا المطار خاليا.. وموظفيه قلة ، وجميعهم لا يتحدث من اللغات سوى الإسبانية .. ولكننا لم نتعطل .. فسرعان ما أنهوا الإجراءات اللازمة ..ولما اتجهنا من المطار إلى الفندق وجدنا شوارع المدينة أيضا مقفرة .. وعند وصولنا إليه حرنا مع المسئولين عنه ، فأخذت أبحث عن برقية تسلمتها من مكتب الخطوط الأيبيرية في طنجة ، تتضمن موافقته على إقامتنا فيه .. ولم أعثر إلا بعد وقت .. فشكرت الله إذ أنقذتنا من مشقة التفاهم بالإشارات ، والحقيقة أنني استغربت هذا الوضع العجيب .. فالمدينة تعتبر ثاني مدن الجنوب الإسباني بعد اشبيلية ..وميناؤها كما علمنا يضج بالحركة وحوانيتها تزخر بالبضائع ولها شهرة عالمية بأنواع من الفواكه والمشروعات .. وفيها من الآثار ما يغري السائح بزيارتها كالقلاع المغربية المتميزة بها .. وكاتدرائيتها التاريخية المقامة منذ القرن السادس عشر ، وتعتبر كذلك من المشاتي التي يفر إليها الأوربيون من صقيع بلادهم .. وكل الأماكن المحيطة بها تزدحم برواد المتعة والراحة والاستطلاع .. وتحفل بكثير من الشركات والمكاتب السياحية وبالعديد من المصارف والبيوت المالية . فعلاً استغربت أن تكون مقفرة ومطارها لا يوجد فيه من يتكلم غير الإسبانية وفندق من فنادق الدرجة الأولى لا يعرف النزيل الأجنبي التفاهم مع أصحابه.. وبالكاد حجزت أيبيريا لنا غرفة فيه ..وبدافع من الفضول رغم التعب خرجت استطلع ولكن دون جدوى.. فلا مطعم أو مقاهي أو بشر يمشون .. فالحركة تكاد تكون معدومة أو بالأحرى معدومة عدا سيارات البوليس .. وبعض أفراد من الشرطة وقوفا في الشوارع ..هدوء تام وسكينة تكاد تكون قاتلة .. ولما كان الجوع قد استبد بنا ، ولم نجد في الفندق ما نأكله ، رحت أجوب الشوارع فسألت شرطيا : أجابني بلطف بما فهمت معرفته منه عدم معرفته ما أقوله، وظلت على هذه الحال فترة حتى نالني تعب وصل درجة أقرب ما تكون إلى الإعياء فعدت أدراجي للفندق ..وعند مدخله وقعت عيناي على ساعة الحائط الكبيرة المعلقة في واجهة المدخل، فإذا بعقاربها تشير إلى الرابعة صباحاً، بينما ساعة يدي لم تتجاوز الثانية.. فاعتقدت أنها متوقفة ولكنني سمعت دقاتها ، ولكي أتأكد سألت بالإشارة موظف الاستقبال الكهل ، فأراني ساعة يده المطابقة لساعة حائط الفندق..واستمرت لغة الإشارات بيننا فهمت أنهم في إسبانيا يقدمون الساعة خلال فصل الصيف مائة وعشرين دقيقة ، فأدركت سر إقفار شوارع غير أنني لم أقتنع تماما لانعدام حياة الليل فيها،. لأن السياحة مصدر من مصادر دخلها . والمنسقة وما أن طلع الصباح حتى رأينا مقاهي أرصفتها العاجة بالرواد ، ومصارفها المنتشرة في أحيائها، ومتاجرها العامرة بالنشاط وشوارعها المشغولة بالسيارات والمشاة ولكن رغم كل ذلك ورغم أنها موقع انطلاق ومركز تجاري ، ، منها نستطيع زيارة جميع مدن الجنوب الأسباني كاشبيلية وقرطبة، وغرناطة ، وطريفة, وقادس .. ن والترمنيلوس ، وميدرجال، ومختلف المنتجعات المنتشرة على ساحل الشمس ..فتتمتع بالمناظر الجميلة في وتشاهد الآثار العربية التي تطالعك بها كل مدينة جنوبية في إسبانيا فتعيش أياما مشدودا إلى ماضيك التليد..في كل بقعة ، وتحت كل شجرة ، وحيال كل صخرة ن وحي ومنحى، وفي السهول والروابي والمرتفعات والأودية .,
أقول رغم كل ما تقدم تبقى ملقه غير صالحة لعشاق السهر الطويل ..فمعظم سكانها وروادها من أصحاب الأعمال، مما يترتب معه الاستيقاظ المبكر .. وتمركز السياح والطلاب الاستجمام بعيدا عن الضجيج قرب الشواطئ المعدة للسياحة وفي الشاليهات ن والفنادق الواقعة على ضفاف البحر ، والصخب ليلا بين مياه ومروج وحسان.
كما لا يغرب عن البال أن لملقه مكانة تاريخية وفنية ، من خلال أنها كانت في حقبة من تاريخها الميناء الرئيسي لمملكة غرناطة فأصابت ازدهار كبيرا وحولها جرت منافسات وصراعات، وهي تحفة فنية، من خلال حي الصبة العربي المتميز بقلاعه المغربية ، وانتماء أشهر رسام معاصر في العالم لها ألا وهو (بيكاسو)، ومما يحسن ذكره في هذا المجال أن الأندلس التي أنجبت في الماضي عباقرة الفكر، العلم، والفن، والشعر ، والفلسفة ، أمثال : ابن زهر .. ابن رشد ، ابن حزم .. وابن زيدون وابن عربي .. وابن حيان.. وزرياب .. أنجبت الموسيقي الغرناطي العظيم والمفكر المبدع (سنيكا) مقتبس (فيدرا ) و(أوديب) ، والشاعر الكبير (فلوكان)،
والملاحظ أيضا أو على الأقل ما أشعر به أن أفضل ما في اسبانيا جنوبها رغم ما يقال عن تقدم الشمال حضاريا عليه وبغض النظر عن العاطفة التي تشدنا نحوه نحن العرب.. نجد أن أجزاء الديار الباردة الجنوبية أجمل مناطقها على الأغلب ..فجنوبي فرنسا على الشاطئ اللازوردي (الكوت دازور)، لا أظن أحدا ينكر تميزه على بقية الأجزاء الفرنسية ..وكذلك الحال في إسبانيا ..ولعل النقاد الذين اخذوا على (رامي ) تغزله بنسمة الجنوب التي يغار على حبيبته منها .. لعلهم لم يجربوا مثله مداعبات النسائم الجنوبية المنعشة في إسبانيا وفرنسا ..فأخذوا عليه مأخذ عيه أهل الديار الحارة التي تنعشهم رياح الشمال ، وتصدعهم رياح الجنوب ..ويحق لهم ذلك لأن المناطق الشمالية ,إن لم تكن هذه قاعدة ثابتة في كل الديار الحارة ــ فهي غالباً على كل حال ، ولكن الشعر شعور قبل كل شيء يهز أعماق الشاعر نحو لحظة حلوة ، وخلوة قبل كل شيء مع الطبيعة تأملية ..فيروح سابرا مواضع الجمال ودوافع الإبداع فتتردد بذلك أصداء نفسه الشفافة بأرق العبارات وأشرق الصور ..ويحتمل أن شاعرنا الذي عاش مدة من شبابه في فرنسا فذاق طعم الحياة الجنوبية زار أيضا إسبانيا القريبة منها ..ففتنته أندلسها فردد شعرا ضجت به أحاسيسه المشدودة لنسمات أندلسية ، أشم فيها رائحة قوم صدروا العلم والحضارة ، وغمروا الدنيا بسيل من المعارف والعلوم والفنون.
والملاحظة الثانية التي يشعر بها زائر إسبانيا رخصها النسبي .. ولا يبدوا لي أن هذا الرخص ينسحب على الإسبانيين رغم شعور السائح بأن البضائع في متاجرها في متناول يده بأثمان مناسبة ..وبأن تعريفة المأكولات والفنادق والمواصلات غير غالية إذا ما قورنت بغيرها كسويسرا وفرنسا والسويد وإنجلترا مثلا، وعلى الأصح بدول شمال وغرب أوربا ..وقد يكون مرجع ذلك العملة الإسبانية (البيسته)المنخفضة ، إلا أن ذلك لا ينطبق ــ كما قلنا ــ على المقيمين الذين يشكون من التضخم العالمي .. ويحتمل أن انخفاض عملتهم زاد متاعبهم المادية .,
وهناك أيضاً ملاحظة آخري لفتت نظري في مطاري ملقه ومدريد ، فأسماء طائرات الخطوط الجوية الأيبيرية كل واحدة منها تحمل اسما من أسماء المدن الإسبانية تعرف به ..فهذه الطائرة اسمها غرناطة وأخرى ملقه.. وتلك برشلونة وهذه قرطبة ..وهكذا ــ وإن لم تخني الذاكرة ــ فإن الخطوط الجوية العربية السعودية كانت في الماضي تعرف طائراتها بأسماء مدن عديدة في المملكة ولا أدري لماذا تخلت السعودية عن هذا التقليد اللطيف ــ لاسيما ــ بعد أن تطور أسطولنا الجوي ..وبلغت طائرته ما لم تبلغه أعداد طائرات أية دولة عربية أخرى ..وصارت المؤسسة تملك أضخم الطائرات العملاقة وأفخرها .. تقوم برحلات لمعظم القارات مما يتيح لقراءة اسم الطائرة في آسيا ، وأفريقيا، وأوربا ، .. فتكون عبارة عن دعاية وتعريف؟,
وأجمل ما في أسبانيا طقسها ــ خاصة ــ في جزئها الجنوبي .. فهو معتدل يميل بالنسبة لسكان الديار الحارة للبرودة ، ولكنه بالنسبة للأوربي كما يبدوا للحرارة ..وعموما المكيفات منتشر استعمالها : في الفنادق والمطاعم والمتاجر الكبيرة.. وفي الغالب مستقر لا يتقلب كثيرا كما في إنجلترا ، أو سويسرا ، وغيرهما ...حيث لا يستطيع الإنسان أن يثبت على لباس معين ... فمرة خفيف ، وأخرى ثقيل ، وفجأة تمطر والنشرات الجوية الثقة فيها ليست مطلقة ..حتى نكون على بينة من طقس اليوم القادم.
المهم أننا في صباح اليوم التالي الذي قضيناه في ملقه وقفنا بالفندق بمن استطعنا التفاهم معه بالإنجليزية .. وحجزنا للغد في رحلة اشبيلية ..وقرطبة مدتها يومان فلما حان الموعد وكان في السادسة صباحا فوجئنا بالحافلة الضخمة التي توقفت أمام فندقنا خالية من الركاب، فاعتقدنا إن هذا سوء حظ سيلازمنا في هذه الرحلة .. فنحن أو الركاب ، وحتما سنكون في العودة آخرهم .. ففي الصباح اضطررنا للاستيقاظ المبكر جدا بعد يوم لم نسترح خلاله رغبة في التعرف.
حي القصبة في ملقه
على معالم المدينة وشوارعها وأسواقها ، سوى بضع ساعات لم تكن كافية لإعطاء أجسادنا ما يكفيها من النوم .. وكما استأنا من ذلك خوفا من الإرهاق لطول مسافة الطريق ، والقيام باكرا ــ سيما ــ وبصحبتنا طفل لم يكن عمره قد جاوز السادسة بعد ..فقد سرنا عندما دخلنا الحافلة التي وجدناها مزودة بجميع وسائل الراحة .. فالمقاعد واسعة ووثيرة ، والمسافات بينهما تسمح بالتحرك دون إزعاج من حولك ، وشكل السيارة ونظافتها وديكورها الداخلي مريح للبصر ، وتكييف الهواء يعمل جيدا وتستطيع أن تجعله على الرقم الذي تشاء ... والقيادة كانت هادئة بعثت في نفوسنا الاطمئنان .. وقد تضاعف سرورنا ــ فيما بعد ــ لأننا رأينا من المنتجعات ، والأنحاء ، والقرى ، والشواطئ المحيطة بملقه أثناء تجوال الحافلة .. لالتقاط رفاق الرحلة الحاجزين من فنادقهم ، وشققهم ، وشاليهاتهم ، وفيلاتهم ما لا يمكن أن نراه لو لم نكن أول الراكبين ..فطوال ساعتين كاملتين بالإضافة إلى الساعات الخمس التي استغرقتها المسافة إلى اشبيلية ، لم نشعر بالملل أو ينتابنا التعب .. بل سهرنا حسب ما هو مخطط حتى منتصف الليل بعد وصولنا اشبيلية في حفلة رقص شعبي ، مما تشتهر به المدينة ، ويعد من معالمها المميزة ..ذهبنا بعدها رأسا إلى غرف نومنا ، بعد أن أخذنا منا التعب الشديد ، مما جعلنا نحس بلذة الراحة وطعم النوم .
قطعنا المسافة من مكان انطلاقنا حتى اشبيلية دون إحساس بالسام ، ودون أن يغالب أجفاننا النعاس رغم سعة المقاعد المغرية بالنوم والتعب الذي أصابنا في اليوم السابق وذلك لأننا بشوق لرؤية الجديد، وعدم تفويت منظر رائع علينا ويالها حقا من مناظر ساحرة تأخذ الألباب ، للحد الذي معه نسينا متاعبنا ، وما عدنا نفكر بهمومنا أو نتحدث بغير ما نشاهده فتمتعنا أيما متعة عبر ساحل الشمس الممتد مسافة ليست قصيرة والمعروف بالإسبانية (كوستاديل سول ) وبالمناسبة ففي أسبانيا أعد ثلاثة شطان للسياحة والاصطياف ، و الاستجمام فبالإضافة إلى ما سبق ذكره في جنوبها ، هناك في وسطها ساحل (كوستابلانكا) فشاهدنا على جانبي هذا الشاطئ البلاجات الفسيحة والفيلات الأنيقة ، والمنتجعات المتناثرة .. وعلى مد البصر المروج الخضراء والحدائق الغناء ، ومن مدينة صغيرة إلى قرية ريفية .. وكما مررنا بالسهول وسرنا على الفيافي، فقد صعدنا الجبال وانحدرنا للوديان .. وبين هذا وذاك تجري الانهار ، وتتدفق الشلالات وتفيض الينابيع بمحاذاة البحر والأشجار السامقة كأنها تحمينا عندما تشرق الشمس وتبتعد عنا وعينها علينا مصوبة حين تغيب ، فيسر بتساقط الرذاذ، وهو يغيث الأرض وتبتسم له الورود.
هاهنا كان أسلافنا يبدعون .. ومن هنا تفتحت مواهبهم فتعملقوا ، حتى صاروا حديث الدينا، فامتد جسر ثقافتهم الذي عبر عليه رواد النهضة الأوربية فعرف العالم فضلهم وشهد لهم العدو والصديق بالأسبقية حينما محضوا البشرية ما ساعدها على مسيرتها نحو الرقي .. فكانت سرجهم النور الذي اهتدت به سبل الخلاص من أوضار التأخر والتحرر من ربقة عصور الظلام.

الصورة الرابعة : مدينة ابن مالك وحمص الأندلس




أقصى مدينة في جنوب إسبانيا ــ أول عرب تطأ أقدامهم أوربا ــ بعد سقوط قرطبة صارت اشبيلية مركزا ثقافياً وتجارياً وعسكرياً ــ عندما قال الاشبيلي: العرب رغم أمجادهم وانتصاراتهم وتفوقهم العسكري بقوا أسرى صحراء جزيرتهم مفتونين بالبداوة.
ذكرنا في الصورة السابقة أن رحلتنا من ملقه إلى اشبيلية استغرقت خمس ساعات وساعتين قضيناهما لالتقاط الركاب المشتركين بالرحلة من منتجعاتهم المحيطة بالمدينة ورغم ذلك لم نشعر بتعب إلا في منتصف الليل ولكننا لم نذكر أن الرحلة تخللتها استراحة في " طريفة " لم تتجاوز الأربعين دقيقة تناولنا خلالها طعام الإفطار واستراحة أخرى غذاء في الفندق المحجوز لنا فيه في المدينة المقصودة ، حيث بدأت بعد هاتين الاستراحتين جولتنا على معالم اشبيلية القديمة حتى مغيب الشمس.
وطول الطريق من منطقة البداية إلى نقطة نهاية محطتنا الأولى ، كانت المشرفة على الرحلة تحدثنا من ميكروفون أجلسته قبالتها على ماصة صغيرة عن يمين السائق بلغات ثلاث هي : الإنجليزية ، والفرنسية ، والإيطالية بالإضافة إلى لغتها الأصلية ، التي تتكلمها معظم دول أمريكا الجنوبية وتتوقف إلا لدقائق قليلة بين الحين والحين تراجع أثناءها أو تستعد أو تتذكر .. وفي الحقيقة قد وجهت أنظارنا إلى العديد من الأشياء ، واستطاعت أن تزودنا من معلومات لم نكن نعرفها.. وكانت أثناء سردها برنامج الرحلة قد ذكرت مدينة " طريفة " وأننا سنصلها في الساعة كذا ...وسنقضي بها مدة كذا ... لنأخذ قسطا من الراحة ونتناول الإفطار ومن الجميل أنها لم تنس أن تعرفنا على المدينة ، لأنها مدينة غير عادية ويظهر أن الوقوف بها متعمدا أو مرتبا لكونها ذات تاريخ وشهدت أحداثا تقرر على أثرها مصير اسبانيا كذلك فإن المسافة بينها وبين ملقه كافية لبعث الرغبة في الراحة ما دامت المسافة بينهما وبين ملقه كافية لبعث الرغبة في الراحة مادامت الرحلة رحلة استجمام واستطلاع وليست رحلة عمل أو إنجاز مهمات ، سيما وأن النهوض الباكر من النوم لم يسمح لنا بتناول الفطور لسببين : ــ عدم كفاية الوقت للجلوس من أجل تناوله ولأن المطاعم لم تكن قد تجهزت لخدمة مرتاديها بعد.
ومع أنها ذكرت أن المدينة منسوبة إلى قائد عربي يعرف بهذا الاسم فقد أخطأت حيث أن اسمه كما هو معروف" طرف بن مالك الذي أرسله موسى بن نصير على رأس خمسمائة من الجنود للاستطلاع ، الاستكشاف وجس النبض فعبر بسفن يوليان مع رجاله فكانت أول بقعة نزلوا بها من جهة مضيق جبل طارق عند المكان المعروف بالجزيرة الخضراء .. ما سميت واشتهرت باسمه .. ولكن الأسبان يدعونها طريفة ، وتعتبر هذه المدينة أقصى مدينة أوربية من الناحية الجنوبية ، باتجاه إفريقيا الشمالية ، وأول أرض وطأتها أقدام عربية .
كانت هذه الحملة الاستطلاعية ، ممهدة للفتح العربي العظيم لشبه الجزيرة الأيبيرية ، حيث عاد قائدها بعد أن قام بما أنيط به خير قيام ، وهو يحمل معه معلومات في غاية الأهمية ، ومن أهم ما عاد به ، وكانت دافعا لبعث موسى بن نصير ومضاعفة حماسه وعزمه على غزو اسباني ــ معلومات تتلخص في النقاط التالية :
1) تأكد حاكم سبتة في حلقة مع العرب وفي كرهة لملك أسبانيا القوطي .
2) تأكد له أن المقاومة ضعيفة والتماسك منعدم بين الجنود.
3) تذمر كثير من الأهالي من السلطة القوطية وتوقهم الشديد للتخلص منها ، فقد قوبل القائد عند دخوله الأراضي الإسبانية بترحيب حار، وسمع كثيراً من الشكاوى، بسبب معاملة القوط لهم القائمة على التمييز ، وعدم إنصاف المظلومين
4) انقسام الناس في اسبانيا بين ابناء آخر ملك شرعي لها من القوط (وتيزا) . والضابط المتمرد " لوذريق تيود وفريد" الذي نصب نفسه ملكا بعد انتصاره على الملك الذي ثار ضده نبلاء وأشراف القوط احتجاجا على تجريدهم بغية عودة ما كانوا يتمتعون به .
وهكذا كان طريف ورجاله أول عرب في التاريخ شهدوا أوربا فسمى الموضع الذي يواليه على اليابسة بعد عبوره من أفريقيا باسمه .. وقد عمر وحصن فتحول مدنية من مدن الأندلس الشهيرة والمزدهرة ويبدوا أن موقع طريفة بمحاذاة جبل طارق .. وقربها من أفريقيا ومكانتها التاريخية جعل لها أهمية منذ أيام العرب الأولى ولكنها رغم ذلك لم تصل ما وصلت إليه غيرها من المدن الأندلسية الأخرى وذلك نظرا لصغرها وقلة عدد سكانها وحداثة قيامها وهي حتى الآن لا زالت صغيرة في مساحتها وعدد سكانها لايتجاوز العشرين ألفا.. وإدارياً تتبع مقاطعة قادس وقد نهبت المشرفة إلى أننا نستطيع رؤية الجو صحوا وفي الليل تظهر أمامنا أنوار المدينة المغربية وهذا ما لاحظناه إبان وجودنا في طنجة.. حيث سكنا فندقا على البحر مواجها للشاطئ الإسباني فكنا نراها في حالات صفاء السماء ولم تغب عنا أنوارها قط ليلا في المدة التي أقمنا في المدينة المغربية.
بوابة الأسد مدخل قصر اشبيلية الكبير.
ومن الغريب أن اسبانيا التي لا زالت تعاني من الوجود الأجنبي ، على قطعة من أرضها ن وتذوقت مرارة الاحتلال ــ وأن يكون محدودا ــ ولكنه في بقعة استراتيجية من حيث ربطها البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي وكونها نقطة مواصلات هامة وقبل هذا وذاك ، فجبل طارق الذي تمركزت فيه بريطانيا ، وكان قبل غروب شمس عظمتها نقطة حيوية في أمن ممتلكات الإمبراطورية العجوز ــ وإن خفت قيمته ــ فلا زال ميناؤه يضج بالحركة ، والبضائع المعفاة من الرسوم ، تتكدس في أسواقه وقد صار مجمعا لشتات الاستعمار البريطاني ، مما تفيد منه الحكومة الإنجليزية .. وإلا ما أصرت على البقاء به بحجة رغبة سكانه ، الأمر الذي جعله لا يتصل بالعالم إلا من خلال البحر والجو بعد أن حظرت الحكومة الإسبانية عمل الإسبانيين فيه والدخول من أرضها إليه.
الغريب أن إسبانيا التي تحاول التخلص من الوجود البريطاني في أرضها ، الذي حدث إثر معاهدة أبرمت بين إسبانيا ، وبريطانيا، تتمسك بسبتة العربية .. المغربية
إن اسبانيا التي لها في نفوس العرب مكانة خاصة ، فقدرتها على أكمل وجه ، وعملت على ديمومتها فناصرت القضايا العربية ، ولم تعترف بالكيان الصهيوني ، واخذت تعمل على توثيق علاقاتها بكل الدول العربية ، واستجابت لسكان الصحراء فتخلت عنها ـ.. لا يبدو أنها مع كل ذلك تحاول أو تتعمد الإساءة إليهم، فتتجاهل أماني سكان سبتة بالإنضمام إلى الوطن الأم ,قد حز في نفسي حقيقة ما رأيته . وأنا في طريقي من طنجة إلى تطوان حيث مررنا على سبتة الواقعة على الساحل المغربي ، وفي الأرض المغربية، ولم يكن يفصل بيننا وبينها سوى مائة متر ، ورغم ذلك لم ندخلها بسبب عدم التصريح لسائق اللسيارة المغربية التي تقلنا بالدخول ، لأنه لم يكن يحمل جواز سفر ، ولم تكن عندنا رغبة في تركه، فاكتفينا بالنظر إليها.
وبالمناسبة فسبتة هي الصخرة التي بدأ منها التحرك العربي نحو أوربا ، من المكان المحاذي لصخرة هرقل ، فدعى الموقع الذي عبر منه جيش الفتح العربي إلى أيبيرية باسم قائده طارق ابن زياد .. وكانت أول مستعمرة أوربية في القارة الإفريقية وسكانها الآن يقاربون مائة ألف معظمهم عرب مغاربة .
المهم تحركنا من طريفة باتجاه اشبيلية بين مروج وغابات ومناظر متنوعة لا تمل العين النظر إليها، حتى حاذينا مدينة قادس الشهيرة.. ويسمونها بالإسبانية (Cadis)وهي تعتبر من أعرق وأقدم وأهم مدن الجنوب الغسباني وسموها (غادير) وجاء بعدهم القرطاجيون وتلاهم عليها العرب من أهم الموانئ على الأطلسي وهي الآن عاصمة لمقاطعة ، ومن الموانئ المهمة ولكننا للأسف لم ندخلها وكان من المفروض ما دامت على الطريق أن نميل نحوها .. ولكن الذي حصل أن المشرفة نبهتنا إليها مشيرة إلى موقعها منا فشاهدناها على البعيد عن يسارنا وعند الاقتراب من اشبيلية دخلنا وسط بلدة صغيرة طابعها العربي واضح بأزقتها الضيقة ودورها المزينة بالسيراميك ، والنقوش ، وأخيراَ أقبلنا على اشبيلية فجأة في خيالي صورة شاعرها المبدع وسلطانها المنحوس إبان حكم ملوك الطوائف العرب للأندلس هذا المسكين الذي لقي من الأصدقاء أكثر مما لقي من الأعداء فذاق مرارة سلبه الحكم ، والنفي والفقر حتى أن بناته بعد العز والجاه صرن سخطن لصاحب شرطته الذي لم يرع معروفا، أو يقد عشرة ، ولم تتم فرحته بالذلاقة التي تحولت إلى مأساة على يد حليفه بالأمس ضد النصارى وعدوه بعد أن طمع بحكمه فمات محمد بن المعتمد بن عباد حسرة ، بعدما تألم من الغدر ، وعانى من القهر في سجن إبن تاشفين ف أغمات.. ومن ثم دخلنا ثالث مدن أسبانيا بعد مدريد وبرشلونة .. وقاعدة جزئها الجنوبي واشبيلية يسمونها بالإسبانية (sevilla) وبالإنجليزية (sivill) وهي حاليا تشتهر بكثير من الصناعات كالدخان والمواد الكيماوية والمفرقعات والمعدات الحربية والعطور وتمتاز ببعض الفنون وزائرها يلاحظ سعة شوارعها فساحة ميادينها وتنسيق ممراتها، وتنظيم حدائقهاوكبر مبانيها نسبيا وأناقة فنادقها ، وحركة أسواقها الغاصة بالناس والبضائع ، ,مما يلفت النظر فيها جامعنها العريقة اتي أسست قبل ما يزيد على الأربعمائة سنة و بها أيضاً مطار دولي ، ومحطة لسكة حديد تصلها بجميع اسبانيا وبعض الدول الأوربية وفي أحد أكبر ميادينها في قلب المدينة ينتصب تمثال (السيد ) ويلفظ بالإسبانية كما يلفظ بالعربية تقريبا .. والاختلاف فقط أنهم بدلا من لفظهم لقبه باللام الشمسية يلفظونه بالقمرية ، واسم السيد الحقيقي هو ( رود ريجود ياس دي بيفار) ويعتبره الإسبانيين بطلا قوميا وقد بولغ كثيرا في بطولته وفروسيته ، وكان مجالا رحبا لخيال الكثيرين هي أن ظهوره كان في القرن الحادي عشر الميلادي، كفار من فرنسا ملك قشتالة من فرنسا وفي هذا الوقت كان الضعيف قد دب في أوصال دولة المرابطين ، التي ورثت ملوك الطوائف على الأندلس ، وباتت تواجه تحديا لسلطانها في أفريقيا من قبل الموحدين.. ولما كان السيد طموحا ومحبا للمال أو لخلافات كانت تقوم بينه وبين الملك القشتالي ، أو حاشيته ، فإنه لا يتورع من الانضمام إلى أعدائه وقد حارب في صوف المسلمين ضدهم ، وظل طوال حياته بين هؤلاء وهؤلاء حتى تمكن منه ما يقرب من العشرين عاما انتجت هوليود فيلما عن حياته مليئا بالمغالطات التاريخية .
تاريخيا نجد اشبيلية قد توالت عليها كثير من الأحداث ، التي اكتسبتها مركزاً مرموقا منذ أيام الفينيقيين إلى أن جعلها الرومان عاصمة لمقاطعة (بيتكا ) وبنوا بجوارها أثرا تمثل في مدينة (اتاليكا ) وفي عهد الوندال والقوط الغربيين أوليت عناية خاصة . وعندما سقطت بأيدي العرب سنة 712م حظيت باهتمام بالغ ، وصارت من ثم مقرا لإمارة بني العباد ، ولما آل حكمها للمرابطين ، شهدت ازدهارا ثقافيا وحركة تجارية حتى انتزعتها من الموحدين (فرديناند الثالث ) حاكم قشتالة . عام 1248م ومن المعروف أن العرب سموا اشبيلية حمصا تيمنا بحمص الشام ، ولا أدري ما الذي دعاهم إلى هذه التسمية.. أبسبب أن أكثر من أقاموا بها بعد الفتح العربي كانوا أساسا من حمص الشامية . أم أن السبب يعود إلى موقعها بمحاذاة نهر الوادي الكبير.. الشبيه بنهر العاصي تقع على ضفافه حمص الشام.. أو لكون طقسها شديد البرودة شتاء ، وتيار الهواء فيها قوي كحمص الشامية؟؟؟.
عند مدخل مدينة اشبيلية توقفنا دقائق قليلة لالتقاط بعض الصور التذكارية وبعد ذلك اتجهنا إلى الفندق المقررة إقامتنا فيه لليلة واحدة فقط وكعقب تناول الغداء فيه صعدنا إلى غرفنا لأخذ قسط من الراحة ، قبل التوجه إلى زيارة معالم المدينة وهي حسب مخطط الرحلة : قصرها الكبير ويدعونه (الكازار ) (alcazar) والكاتدرائية القريبة من القصر وجولة نفضيها بحي القصبة العربي القديم ويعني أفضل الأحياء أو وسط البلد من حيث الموقع والتنظيم .
في الرابعة بعد الظهر بدأت جولتنا وقد رافقنا دليل يجيد التحدث بالإنجليزية والفرنسية ،، ومعا مما سبب نواع من الارتباك والإطالة, وأول ما دلفنا من المعالم الكازار الذي يعتبر من أجمل القصور عمارة وتنظيمها يعتبر من أجمل القصور عمارة وتنظيما لما يتميز به من فنون معمارية متعددة : لقد بناه (يوليوس قيصر )، وأثناء الحكم العربي ، تطور وازدان وعلا شأنه.. وقد ازداد أبهة بعد سقوط قرطبة ,انتقال الحكم العربي إلى اشبيلية... التي حلت محلها سياسيا وثقافياً، واقتصاديا وحربيا، ولما كانت على جانب من الأهمية الكبرى.. فقد حصنها (الفار ادو) وقصره الملكي الكبير يحوي ثلاثة أقسام رئيسية :
1ــ آثار العرب المعمارية.
2ــ قصر دون بطرس الأول.
3ــ ووفق التطور في القرون المتأخرة أضيفت للقصر عدة أبنية .
لقد قسم إلى أقسام عدة .. كل قسم من أقسامه خصص لفئة من ساكنيه .. وزواره حسب مقاماتهم فهناك
قاعة السفراء في العهد العربي في اشبيلية
أقسام النساء ، رفيعات المقام واللائي أقل درجة .. وللمتزوجين معزولة عن أقسام العزاب وأخرى للخدم والضيوف والحراس هذا لإضافة إلى قاعات الاستقبال كقاعة الأمراء والسفراء والأعيان ، وساحات كساحات الصيد والعديد من الأبواب ، والأبهاء ، علاوة على غرف الانتظار والطعام.
والقصر مزين بالفسيفساء والسيراميك وتحيط به كثير من الأزقة ، والأحياء القديمة التي بدأ التأثير العربي فيها واضحا كل الوضوح .
بدأ الدليل الشرح وأخذ يردد كلمة ليست غريبة عني ولكني لم استطع فهمها بسبب لفظة إياها بعجمة شديده .. وبعد لحظات أدركت أنه كان يريد (الهريم ) أي الحريم.. وهذبا ما جعل دليلنا في غرناطة يستأذن عندما أراد نطق اسم عربي بعد أن تفحص وجوه من حوله وبما أنه قد تعود على رؤية كثير من الزوار العرب لقصر الحمراء ، وسبق له أن زار البحرين صار يعرف سحنة الإنسان العربي ومن ملامحنا عرفنا وذلك على عكس دليلنا في قرطبة الذي يبدو أنه لم يعتد رؤية العرب أو لظنه بأنه يفهم ما يتحده عنه فلم يستطيع تمييزنا من بين المجموعة وأخذ يلفظ كلمات عربية متباهيا بها أمام السياح حتى بلغ الأمر درجة قراءة آية قرآنية في محراب الجامع ، فأخطأ خطأ فاحشا وجدت الصمت معه لا يصح فالتفت نحوي شاكرا وقد انتهزت الفرصة فقلت له : يجوز أن تخطئ إلا في القرآن ــ لاسيما ــ وأنك تقرأه متعبدا فمن المستحسن أن تشير إلى السور دون قراءتها ن لأنك لا تحسن من العربية إلا بضع كلمات تجد مشقة في لفظها ، فكيف بالقرآن وهو أساس حياة المسلم وأصل لغة العرب؟ فأجاب مبتسما : سأتعلم العربية لأنني أعشقها.
ودخلنا القصر فأخذ الدليل يحدثنا عنه ,وقد جعل حديثه عن العرب وكيف أهم استطاعوا تأسيس حضارة راقية وإيجاد مناخ فكري ساعد على تفتح المواهب الفنية وتعرض إلى أهمية الماء في حياة الإنسان العربي الذي رغم بيئته الشحيحة به فهو لا يطيق صبرا عنه وقد ذهلنا بضخامة الأبهاء وعظمة البناء ، وروعة التنظيم ن والتنسيق وفي أحد أقسام القصر توقف فجأة وقال" بماذا توحي لكم هذه الساحة المسقفة على شكل خيمة؟ " " واستمر قائلا" : إن العرب رغم ما وصلوا إليه من الحضارة وما أنجزوه لا زالوا يتوقون إلى بيوت الشعر والخيام وإنهم رغم أمجادهم وانتصاراتهم وتفوقهم العسكري والحضاري واحتكاكهم بأرقى الشعوب بقوا أسرى صحراء جزيرتهم مفتولين بالبداوة "
وفي هذا المقام لنا كلمة وهي: إن الأصالة مكنت العب من الصعود والصمود ، والتواضع جعلهم سادة الدنيا ومعلميها وسمو الأخلاق التي شدد عليها دينهم ملكتهم القيادة ومما لا شك فيه أن بداوة العرب تختلف عن بداوة سواهم من الأمم ــ وإن تنقلوا وجابوا الديار ــ فهم قوم تقوم حياتهم على مبادئ وقيم ومثل عليا وفي نفوسهم اعتزاز وكرامة وشعور بالثقة ــ وإن نزحوا يبقون إلى أرضهم مشدودين ، وبأوطانهم متفاخرون وفيهم من الشجاعة مالا يوصف ، ويمتازون بعدم السكوت على الاهانة. وترحالهم يجدون فيه الحرية والإنعتاق من القيود وبداوة العرب كانت ولا زالت كريمة نبيلة ، لأنها تعني البساطة ، وحب الآخرين والاعتراف بقدرات الخصوم والبسالة والفصاحة والصراحة فغدت البداوة العربية بهذا إلهاما لقيم نموذجية للسلوك الإنساني على عكس من يعيشون البداوة على هامش الحياة بلا قيم أو وطن أو أصل فيحيون متسكعين ينالهم الاحتقار لما في سلوكهم من انحراف لامتهانهم أنفسهم بما يمارسونه من ضروب النصب والاحتيال ، والتشرد، والخنوع، والتذلل، للغير كالفجر مثلا ، وعندما تخلص العرب من بداوتهم ظلوا أوفياء لقيمها ومثلها العليا، فوقفوا أحسن توفيق وعن جدارة نالوا مكانة في التاريخ فريدة .
إثر الانتهاء من زيارة القصر من قمنا بجولة على الأحياء المحيطة به ، ويا للدهشة فكأن الإنسان في أحياء دمشق القديمة خلف الجامع الأموي أو في مصر القديمة أو إحدى مدن المغرب العربي العريقة فالطابع الإسلامي تشاهده في البيوت والحوانيت والمطاعم وطبائع وتصرف الناس.
هذه الأحياء تنقل المرء إلى عوالم الماضي العربي الزاهي ..تنقله إلى عصور التفوق والازدهار وتجعله يعيش مع الأمجاد ويحيا حياة الأجداد.

الصورة الخامسة : لقاء في زينة عواصم ممالك القرون الوسطى




جامع قرطبة كان أول جامعة في العالم ــ إن العالم الحديث ارتوى من نبع حضارة العرب ــ الدار التي تسكنها عائلة أندلسية قديمة ــ ما يؤلم طغيان كلمة مور.
في الكتابة عن التاريخ العربي ، أحاول تجنب ذكر كلمة العصور الوسطى لكونه اصطلاحا يوحي بالظلام والتأخر ... والعرب إبان هذه القرون كانوا ينعمون برخاء وتقدم ويتمتعون بحرية لم تعرفها أمة من الأمم القديمة والوسطية .. وفي الوقت الذي كان الغرب فيه في أقصى درجات الانحطاط ، كان العالم الإسلامي في قمة ازدهاره المعنوي والمادي ولكن يبدو أن الاصطلاح شع فوقع فيه ــ عن حسن نية ـ كثيرون من كبار مؤرخي العرب ، ورغم أنهم يقولون : (خطأ شائع من صحيح مغمور ) فإني أرفض من حيث المبدأ ترويج الأخطاء والتشجيع على ارتكابها .. ولكني أجدها الآن مناسبة لعنوان ، وذلك ليس فقط لشيوع الاصطلاح حتى تتضح صورة التفوق الإسلامي على العالم المسيحي خلال هذه العصور ، ولا لأن ارتباط الحياة العربية في الأندلس بأوربا كان وثيقا سواء في الحرب أو في السلم ، ولأن العلاقات العسكرية والسياسية ن والثقافية والاقتصادية ، مع الممالك الأوربية في القرون الوسيطة لم تنقطع طيلة ثمانية قرون ، مما جعل ما ينطبق عليه في غرب العالم الإسلامي يغاير في بعض جوانبه ما ينطبق عليه في الشرق ، بل لأن الأندلس كانت نقطة الضوء الوحيدة في أوربا واستحدث أهلها أنماطا أثرت في الضوء الوحيدة تأثيرا بليغا في كثير من مناحي حياته.
ومما يؤلم العربي الذي يزور آثار قومه في أسبانيا، طغيان كلمة (مور ) على السنة الأجانب وتعني عرب شمال إفريقيا، ولا نعلم لماذا الإصرار على ترديد هذه الكلمة ، رغم بعدها عن الصحة والصواب حتى اشتهرت وصار بعض الناس ممن ليس لهم دراية بالتاريخ يظن أن المور غير العرب؟!.
إن هذا لا يجوز لأنه مغالطة فاضحة . وما نرجوه أن تنبه الأمة العربية الحكومة الإسبانية الصديقة والقريبة ، على هذه المفهوم الخاطئ الذي قصد من ورائه تشويه سمعة العرب ومسح ذكرهم فالإصرار على اللفظ من شأنه تضييع المجد العربي في اسبانيا ومن المعروف أيضا أن الإسلام جمع بين الأمم ولم يفرق بين الأجناس ، أو يمايز في ألوان الناس فهم سواء ، والأفضلية عمادها التقوى والعمل الصالح وكما أن كثيرا من أهل المغرب يعودون بأصلهم إلى المشرق ففيهم من أخلص للإسلام وضحى في سبيله. وكما أن الخليفة الوليد بن عبد الملك أمر بالفتح ، وموسى بن نصير خطط له فطارق بن زياد قاد الجيوش وطريف بن مالك عاد بالأخبار السارة فبالإسلام اجتمع العرب والعجم ، باسمه قامت حضارة شامخة وبفضله اجتمعت قلوب متفرقة فلا يمكن أن نسكت على محاولات التفريق والتشويه وطمس الحقائق أن يعطوهم أسماء قبلية تبعدهم عن الوحشية ، رغم أنهم لم يحققوا إنجازا استفادت منه البشرية بل كانوا معاول هدم وخراب.
الساعة الآن الثامنة والربع : ونحن لا نزال في اشبيلية ، نستعد للرحيل إلى قرطبة ، وبعد ما تكامل جميع رفاق الرحلة ، متخذين مقاعدهم بالأتوبيس أمام الفندق الذي بتنا فيه ليلتنا ، وفي حوالي النصف بعد الثامنة انطلقا نحو قرطبة زينة ممالك العصور الوسطى ، ودرة العالم المتحضر خلالها وسيدة الدنيا ثقافيا وعسكريا قرطبة عاصمة العالم الإسلامي إبان هذه العصور في الغرب ، والتي دلت زمنا طويلا بجمالها ، ورفعة شأنها وعظمة ساستها.
المطبوعة الصغيرة التي وزعت علينا تقول " إن زيارتنا لقرطبة ستتضمن زيارة جامعها المشهور عالميا ، وحي القصبة ، والمعبد اليهودي ، وتناول الغذاء في أحد مطاعمها التاريخية " ، فسألت عن ( الزهراء ) التي قرأنا عنها في التاريخ، إن الناصر بناها تكريما لزوجته وأتم خلفاؤه نواقصها فبدت آية في الفن المعماري وبقيت أطلالها الآن تحكي ما كان يتمتع به المسلمون من ذوق وقدرة فقالوا إن برنامج الرحلة يترتب عليه أجر أكثر فليس كل الرحلات لقرطبة تشمل الزهراء" فوددت لو نبهت لذلك مسبقا.
المسافة بين اشبيلية وقرطبة تزيد على الثلاث ساعات قليلا شاهدنا أثناءها مدنا صغيرة ، وبعض ، القرى الريفية الجميلة ومتعنا نظرنا بتلال غير مرتفعة ، وسهول افترشتها الخضرة ، فبدت النفوس مسرورة لما تشاهده الأعين ، والأبدان مرتاحة من الجو المنعش مما ساعدنا فيما بعد على التحمل والحركة والتجوال.
وفي الحادية عشرة وصلنا قرطبة (Cordoba) فإذا بها كما تخيلنا عروسا ترفل مختالة بكامل زينتها ، وتمام حليها وقد زادها الوادي الكبير جمالا. وبدا جسرها العربي الذي رمم مؤخرا ن بدا لنا وكأنه من صنع عصر التكنولوجيا.
وفي هذه اللحظة أحسست من شدة الحرص ، في عدم تفويت أي شيء بالتوتر فتزاحمت في ذهني المشاهد لدرجة أني فكرت في التخلف عن العودة لملقه والبقاء في قرطبة يوما إضافيا غير تذكري فجأة لموعد قدوم إبنتي لمدريد من باريس قتل الرغبة في البقاء مدة أطول ــ وقرطبة سمى على اسمها مدينتان في الأرجنتين والمكسيك وهي في حاضرها عاصمة لمقاطعة ومركز أسقفي وتشتهر بصناعة الجلود والمصوغات، ولكن ما يهمنا منها هو ماضيها في العهد العربي حيث كانت زهرة المدائن ، ودرة العواصم ومنها نبتت بذرة المعارف الحديثة فصارت مجمعا لأنواع شتى من البشر فازدهر اقتصادها وسمت مكانتها العسكرية ، وسيطرت سياستها ، وكان جامعها الكبير أول جامعة في العالم أبصرت منه أوربا نور المدينة ومما يؤسف له أن هذا الأثر الإسلامي العظيم حول إلى كاتدرائية منذ عام 1238م ، بيد أن الحكومة الاسبانية شعرت بالخطأ مؤخرا فظل الأثر رغم محاولات تشويهه ، يحكي قصة قوم ملئوا الدنيا عدلا وحبا وسلاما.
المهم بالكاد وجدنا موقفا بالحي الذي يقع في منتصفه الجامع ، فنزلنا لبضع عشرة دقيقة كوقت آخر نتجول خلاله في الحوانيت القريبة والتي رأيناها لا تختلف عن حوانيت عالمنا العربي القديمة .
عندما حضر الدليل سرنا خلفه عدة خطوات، فوقف فجأة طالبا منا الانتباه لما سيقوله فأصغينا إليه فإذا به يتحدث حديثا جعل العبرة تخنقني حتى كادت أدمعي على الخدين تطفر فشعرت بألم ممتزج بفخر وحزن وفرح في آن واحد معا قال " نحن سنتجه أولاً إلى الجامع وقد كان بمثابة جامعة عظيمة ، إنه أول جامعة منه أبصر الغرب نور المعرفة فانتشر أفواج المتخرجين من العلماء المزودين بمختلف أنواع العلوم ، والحقيقة التي يجب علينا عدم نكرانها أن العرب كانوا الجسر الذي وصلنا بالثقافة الإغريقية ومن خلالهم عرفنا الكيمياء والفيزياء والجبر والفلسفة سواء بواسطة الذين عاشوا وولدوا في اسبانيا أو ممن انتقلت أفكارهم من علماء المسلمين في الشرق، كالخوارزمي والباروني وغيرهما . وقد ولد ابن رشد الذي كانت شروحه على فلسفة أرسطو من عوامل نهضة الإنسان الأوربي ، وكانت هذه الريادة الحضارية لقرطبة عاملا فعالا في ظهور مواهب اسبانية تمثلت في عبقرية سنيكا ولوكان وميمونيدس" واستطرد : " ولكن عظمتهم توارت ورقيهم اختفي عندما فرقتهم عواصف الكرة واستبدت بهم الأنانية . فصاروا شيعا وأحزابا متنافرة متباغضة" .
بقدر ما حزنت لقول الدليل أحسست بنوع من الفرح حزنت لخلافاتهم وأنانياتهم بعد أن تشتت شملهم فغدوا طوائف متباعدة، ضعفاء بعد قوة بسبب تفشي الخيانات في صفوفهم واستحكام حب الذات فيهم، فصاروا فرادى أقوياء ، وجماعات ، ضعفاء ، فضاع مجدهم ، وذهبت بهذا ريحهم.
وفرحت بما خلفوه ، وتركوه ، وأنجزوه ، ليحكي قصة حضارة رفيعة ، وإيمان صادق، وتضامن فريد ، فدللوا بذلك على إبداع الإنسان العربي الذي يشاهده الملايين كل عام من شتى قارات الدنيا متمثلا بمآثره التي تشهد بأن العالم الحديث ارتوى من نبع حضارة اسبانية العربية .
بعد هذا الحديث المفرح المبكي ، قادنا رأسا لزقاق ضيق جدا ملاصق تماما للجامع ، وقد انتهى بنا إلى ميدان صغير تتوسطه نافورة ماء يتدفق منها ماء غزير ، وترتفع إلى جانبها شجرة عملاقة فقال: هذا الشارع أصغر شوارع قرطبة وأقدمها على الإطلاق إنه من العهد العربي الذي زهت فيه مدينة قرطبة قبل التمزق واحتلال مكانتها. وهذا الميدان أصغر ميادينها ، ولكن انظروا إلى هذه الشجرة إنها أكبر أشجار المدينة " .
واستمر قائلا " الماء سوف تستغربون غزارته في كل مكان ، لأنه سوف لا يغيب عنكم تطوافكم ، فلماذا كل هذا الاهتمام بالماء والإسراف في توزيعه في الجامع والأحياء المحيطة به ؟ وعلى فكرة هذه الأحياء مسكنة وعامرة بالحركة ولابد أنكم تلاحظون الطابع الغريب عليها أنه الطابع العربي الصميم ، والحقيقة أن هذا التأثير ليس فقط بالبناء وأشكال المنازل المزينة بالسيراميك والفسيفساء بل في عادات وطبائع سكانها " قال " نعود فئغن هناك سرا في الاهتمام به أرجو أن تتبعوني " وتبعناه بعد ما أصابت الدهشة الجميع وباتوا ينظرون المفاجأة، ولكنني وزوجتي أدركنا ما يعنيه غير أننا بتنا نرقب بشوق والدهشة تعلو وجوه رفاق الرحلة الذين لم يكن بينهم مسلم سوانا فقال: " فقال العرب قوم نظيفون ن فدينهم يفرض عليهم النظافة لأنها من الإيمان . تصوروا أنهم يغتسلون ثالث مرات في اليوم " فوقع بالخطأ ولكننا لم نعترض ، ومع ذلك لم يكتف البعض بما قال فأخذ يسأل ويستفسر وفيهم من غفر فاه مندهشا فالإنسان الغربي ــ كما نعلم ــ ينفر من الاغتسال ــ ويوجد منهم أناس تمضي عليهم سنون دون استحمام .. ولا غرابة أن يندهش ويتعجب وقال أيضا " ــ يظن البعض أن سبب اهتمام المسلمين بالماء يعود إلى تعويض ما افتقدوه في بيئتهم الشحيحة وأن إسرافهم ما هو إلا عملية تعويض إلا أن الحقيقة تقول : إن العرب يحبون الإحسان ومن أبرز مظاهرة بالإضافة إلى حبهم الشديد للنظافة ، عدم تكليف الرعية مشقة استخراج الماء من منابعه" .
بعد ذلك دلفنا الجامع فأدهشنا هندسته المعمارية ، وقبل تجوالنا في جهاته وأركانه قال: " لقد شاد عبدالرحمن الأول ــ في أسبانيا أميران وخليفة تولوا هم : عبدالرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بالداخل والملقب بصقر قريش و عبدالرحمن الحكم بن هشام بن عبدالرحمن المعروف بالأوسط أو الثاني ، والخليفة هو عبدالرحمن بن عبدالله المعروف بالناصر ،الذي بلغت في عهده الأندلس ذروتها.. واستمر حكمه خمسين عاما فكان ثاني حاكم مسلم بعد الحاكم بأمر الله الفاطمي، من حيث المدة الزمنية التي حكم خلالها وفي العصور الحديثة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن "
نعود إلى حديث الدليل " أشاد هذا الجامع مسعبنا بفكرة جده الخليفة الوليد بن عبد الملك ، الذي أقام في دمشق جامعا على أنقاض كنيسة كان مهندسوه وفنيوه من بيزنطا، وبمواد بناء سابق وفعل حفيده مثله حين عمد إلى إقامة هذا الجامع فالعرب لا يملكون الابتكار، بل اعتمدوا على قدرات وأفكار الآخرين.
كان هذا الجامع ــ لا زال الحديث للدليل ــ معبدا قديما وقد قام بتصميمه وتزيينه عناصر غير عربية " . لم أحتمل هذا
الجزء القديم من قرطبة ويبدو جامعها والوادي الكبير
الكلام فكدت أنفجر غيظا, وأوشكت أن أصرخ من خلفه قائلا: أتريد القول أن العرب مقلدون هذه قدرة ولكنك في غضون دقائق ناقضت نفسك لأنك سبق وقلت أن نهضة أوربا قامت على أكتاف العرب، وأعلم أن الإنسان العربي من أقدر الناس على الخلق والإبداع ، إلا أنني عندما راجعت نفسي وجدت أن ثورتي ستخلق تذمرا فصبرت كاتما غيظي فقلت بيني وبين نفسي معللا كلامه: لعله عدم الكلام ن ومن خلال تجاربه عرف الناقمين على العرب من الأوربيين كثر . فحاول أن يخفف من ضيقهم بما قاله ، ولكنه سرعان ما داوى جرح طعنته النجلاء حيث قال: ــ " لعل بعضكم لا يعرف أن الآلة الموسيقية الشهيرة الجيتار ، انتقلت إلى اسبانيا، ومن ثم إلى جميع أرجاء العالم من الشرق ,وكان (جرياب) ــ يعني زريابا ــ أول من عزفها وطورها وعلم أصولها ووضع قواعدها " ــ يقصد العود الذي زاد فيه على بن نافع المعروف بزرياب وترى بعد فراره من مكيدة أستاذه إسحاق الموصلي في بغداد . وقال مستطردا: " لم يكن جرياب عازفا ماهرا ومغنيا عظيما فقط ، بل كان صاحب ذوق رفيع وراعي مدرسة فنية راقية ورائدا أحدث ثورة في الموائد وآدابها. وبروتكولات الاستقبال في الحفلات، وابتكر موضات في الملابس والأزياء وواصل من بعده بنوه وبناته مطورين ما كان قد بدأه والدهم النابغة.
خرجنا عقب فراغنا من مشاهدة جامع قرطبة متجهين خلف دليلنا فيها عبر العديد من الأزقة التي بدت بيوتها مطبوعة بالطراز العربي ، إلى أن دخلنا بيتا يتكون من دورين ، في كل دور منه عدة حجرات بشكل مربع مختلفة أحجامها ، وفي وسطه صحن واسع تتمركز في قلبه بركة تنتصب إلى جانبها نخلة كبيرة ، وتسكنه ــ كما قال الدليل ــ أسرة أندلسية قديمة.. والتفت نحونا مخاطبا : " هذه الدار أقرب ما تكون إلى الدار التي حل بها عبدالرحمن الأول .. وهذه الشجرة انظروا إليها إنها شجرة نخيل ، عبر بها عن شوقه العارم ، وحنينه الشديد لعاصمة أجداده ، فزرعها هنا وأنشد بها قصيدة مشهورة عند العرب حتى الآن .. ومما ويجدر ذكره هنا أن الحكام العرب لم يكونوا ملوكا وأمراء فقط ، وإنما معظمهم اشتهر بفروسيته ومواهبه الشعرية وامتاز بكرمه وجرأته ، وكان الأمير عبدالرحمن واحدا من هؤلاء الذين برعوا في السياسة والآداب والحروب، وقد دخل الأندلس بمساعدة أقاربه في أفريقيا ، وسماه خليفة بغداد رغم كرهه الشديد له(الصقر)ويبدو أن قريشا قد غابت عنه فلم يذكرها.. قال الداخل بعد رؤيته نخلة في الرصافة في قرطبة :
تبدت لنا وسط الر صافة نخلة ** تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت: شبيهي في التغرب والنوى** وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيه غريبة *** فمثلك في الإقصاء والمنتأي مثلي
سقتك غوادي المزن في المنتأي الذي *يسح ويستمري السماكين بالوبل
وقال كذلك يخاطب نخلة : ــ
يا نخل أنت فريدة مثلي ***في الأرض نائية عن الأهل
تبكي وهل تبكي مكممة *** عجماء لم تجبل على جبلي
ولو أنها عقلت إذن لبكت*** ماء لفرات ومنبت النخل
بعد أن فرغ الدليل من الحديث عن الدار أخذ يحدثنا عن كيفية تهوية المنازل أثناء فصل الصيف ,كيف أن الحرارة تشتد في قرطبة في تموز(jully)حتى تتجاوز أحيانا الثلاثين درجة مئوية بغض النظر عن هذا العام ــ عام 1976م الذي ارتفعت فيه درجات الحرارة في أولرا ارتفاعا غير طبيعي فتنهد بعض الزوار متعجبا من ارتفاع الحرارة. من ثم ذهب بنا عبر كثير من الأزقة المتميزة بالطابع العربي حتى بلغنا المعبد اليهودي القديم ، وهو عبارة عن غرفة كبيرة تتكون من طابقين ، على جدرانها بعض الكتابات العربية والصور البدائية ، وفي منتصفها مقصورة قال عنها "إن اليهود في اسبانيا تأثروا بالعرب في مسألة فصل النساء عن الرجال ، وأن قرطبة قام بها فكر يهودي فعال في ظل العرب ، الذين قدروا لهم مساعدتهم عند فتحهم اسبانيا فرفعوا عنهم الرقابة، وجعلوهم يتحركون في حرية تامة ــ وإن تناقص عدد اليهود في اسبانيا فقد زاد في السنوات التسع والعشرين الأخيرة بسبب هجرتهم من إفريقيا العربية " .
عجيب صدور هذا الكلام من إنسان يجب أن يكون أمينا في نقل الحقيقة ، فما صدر منه ينم عن دس مقصود الغرض في نقل الحقيقة من قيمة العرب والإيحاء بأسلوب مدروس بأنهم نفعيون لا يقيمون وزنا إلا لمن ينتظرون منه خدمة .. يفيدون منها بينما العكس هو الصحيح وهذا ما تقرره معاملاتهم للناس في جميع البلدان التي امتد إليها سلطانهم حيث سعدت شتى الأجناس بسماحتهم وحبهم للعدل وعدم مساسهم الحريات الفكرية والعقائدية وأخذ يبحث ما عن ما يقوله عن اليهود فلم يجد سوى أنهم صناع مهرة وتجار ناجحون وفي الحكم وكيف أ، (ايزابيل وفدريناند) عهدا إليهم بكثير من المهام ، رغم اضطهاد الكنيسة لهم.
مجرد إفتعال وحديث بلا جدوى ، ومع ذلك لا حظت الاهتمام بأديا على وجوه بعض الزوار، وهذا ما كنت أطلبه عندما ذهبت مع المجموعة لزيارة المعبد اليهودي ، ويبدو كذلك إنه لاحظ اهتمامهم فأخذ يتكلف الحديث عن اليهود تكلفا واضحا ، حتى يرضى من حوله لأنه لو كان يستهدف الموضوعية لما تجاهل نكرانهم للجميل وتجنب ذكر تراثهم اللا مشروع ولا يبدو لي أن صورتهم التي جسدها شكسبير في شخصية شايلوك برواية تاجر البندقية تخفاه.. ولكنه لا يستطيع المجاهرة بذلك لئلا ينقطع رزقه.
عندما حان وقت الظهيرة توجهنا للمطعم القرار تناول الغداء به وقد بدا مظهره الخارجي بسيطا ولكننا عند دخوله وجدناه في منتهى الأناقة ن وهنا تذكرت ما سبق وقاله مرشدنا في اشبيلية " إن القصور العربية في الغالب يبدو مظهرها الخارجي غير جذاب ولكن المرء تكاد تصعقه الدهشة حينما يدخل حيث تأخذه روعة البناء، ودقة الهندسة ن والتوزيع الفني الرفيع في النقوش وتناسق الألوان للدرجة التي يود معها عدم الخروج " .
وتناولنا الطعام وبعده سمح لنا بجولة مدتها نصف ساعة أمضيناها في شراء بعض الحاجات والتقاط بعض الصور التذكارية ومن ثم بدأت رحلة العودة إلى ملقا، من طريق غير الطريق الذي سلكناه سابقا ن وقد استغرقت قرابة الساعتين تخللتها استراحة في قرية نموذجية ، لمدة ربع ساعة تقريبا.. ووصلنا بعدها مدينة ملقه .
بعد الوصول قررنا الإقامة يوما، حتى نرتب خلالها رحلتنا لمدريد بعدما نفرغ من زيارة غرناطة في اليوم التالي، ولكي نتبضع أيضا مما تشتهر به المدينة ونأخذ قسطا من الراحة، تمكنا من التطوف في غرناطة وقصر الحمراء.ولكن ما كنا قررناه طرأ ما عاقه .. فبالصدفة علمنا من موظف استقبال الفندق الذي نقيم فيه أن كل شيء في ملقه مغلق غدا لأنه يومها القومي وحتى لا نتعطل ويفوت علينا يوما رجوت الموظف أن يتصل بإحدى وكالات السفر السياحي، من أجل تنظيم رحلة لغرناطة في هذا اليوم وبصعوبة تم الحجز واستعدينا للرحلة من الغد رغم التعب

الصورة السادسة : المدينة التي شهدت آخر حسرات ملوك العرب في الأندلس











مأساة سقوط غرناطة ــ الحمراء ــ حسناء ــ يصعق حسنها ويأسر جمالها ــ سر تواجد الغجر في غرناطة
فقت الحسان بحلتي وتاجي ***فهوت إلى الشهب في الأبراج
نقوش قصر الحمراء وحكايات الحب والبطولة ــ بعد مشاهدة الحمراء اعتذر الكثيرون عن زيارة الكنيسة .
مأساة سقوط غرناطة ، ونواح أبي عبدالله على ضياع ملكه وحسرته الأخيرة على سقوط قرية (البذول ) في أعلى مرقب من جبال ( البشرات) المطلة على المدينة الرائعة مودعها أيام صباه ، وسنوات عزه وخذلانه ، ومتحسرا على مروجها النضيرة ، قصر الحمراء العظيم بمنائره العالية وبساتينه الخلابة وقول أمه (عائشة ) عندم ِأجهش بالبكاء
" أبك يا بني كالنساء على ملك أضعته ولم تحافظ عليه كالرجال وقد بكي حتى جفت دموعه ، وبعد أن روت دموعه البقع التي وقف عليها حتى سميت"آخر حسرات العربي " عبر إلى إفريقيا من العدوة ، وعاش حالا أقرب ما تكون إلى أحوال المتسولين ، فقد ندم ندما شديدا على أفعاله المشينة بحق شعبه ، ودينه ، حين تعاون مع النصارى ضد أبيه ، وعمه ، والمسلمين ، فحاول التكفير عن ذنوبه ونظر نفسه للجهاد فا ستشهد ، ولكنه ضيع تصرفاته أمة ، وأذل قوما.
هذا ولعله من المفيد أن نتوقف عند تاريخ غرناطة قليلا لأنها لو قيض الله لها حاكما في سنة سقوطها غير أبي عبدالله ولو أنجد المسلمون في مصر وتركيا بقايا إخوانهم في الأندلس لتغير وجه التاريخ الاسباني ، ولما توالت النكبات بعد استسلام أبي عبدالله " 897هــ -1491م " فدخلها النصارى فرحين ، ولصلواتهم مرتلين ، والعيون العربية تنظر إليهم باكية وقد تملك القلوب جزع وفزع.
إنه لو لم يسرف في التعاون مع أعدائه النصارى ويستنجد بهم على خصومه من المسلمين ، لبقيت ــ على الأقل أجزاء من الأندلس حتى الآن مسلمة ، ولما منع التحدث بلغة القرآن أو تنصر قسرا في كل يوم ثلاثة آلاف من المسلمين .
هكذا يبدو منظر مدينة الحمراء ومن خلفها جبال سيرانيفادا
ولما وجد الكردينال:" شمينيش" البغيض وسيلة لدى الملكة ، حين يوسوس إليها بأن بقاء المسلمين خيانة بعهد الله ، وأقنعها بضرورة القمع حتى يعود المرتدون إلى دين أسلافهم
إن رعونة أبي عبدالله سببت كارثة للعلم ، وعصارات الفكر حين عمد البغيض إلى حرق المخطوطات النادرة والكتابات النفيسة . ورغم الاضطهاد والتنكيل بالمسملين فإن ثوراتهم في وجه الطغيان قامت ولكن ما من معين أو منجد فخمدت بعد أن تفرقوا ، بين فار وقتيل ، ومتظاهر بما لا يؤمن به وكيف لا يستسلم قوم عُزل ، لا حول لهم ولا قوة حيال بطش لم يشهد التاريخ له مثيل وحكومة كما يكون" ستانلي لين بول" " لم ترع عهودها التي واثقت عليها عند تسليم غرناطة ولكن حكام اسبانيا لم يكونوا حازمين ولم يكونوا أمناء في معاملة العرب فقد أكرهوهم على أن يخلعوا أزيائهم الوطنية الجميلة ليستبدلوا بها قبعات النصارى وسراويلهم وعلى أن يهجروا سنة الغسل والاستحمام، اقتداء بغالبيتهم في الصبر على تراكم الاقذار ، ثم ينبذوا لغتهم وعاداتهم وأسمائهم ، وأن يتكلموا بالإسبانية ، ويعملوا كما يعمل الأسبان يغيروا أسماؤهم بأسماء اسبانية " .
في الطريق إلى غرناطة التي طالما تمنيت زيارتها وتشوقت للكتابة عنها ، والتي لا أخال أن المرء يمل مشاهدتها لأنها زهرة سماوية على الأرض لا تذبل دائمة الأريج والنوار وظلت وفية باحتفاظها بذكرى أعظم أمة حلت بها ن في الطريق إليها .. تخيلت سخرية القدر بملك مخبول حاسد مقهور ما سمعت دليلا إلا ذمة " كشارل الخامس" الذي حسب أن تحويله جامع قرطبة إلى كنيسة ــ فصلت عنه مؤخرا ــ سيزيل أثرا حضاريا شامخا ، أو هدمه جناح من أجنحة قصر الحمراء وإضافة أبنية بجوارها حتى بدت أمامه كمن يطلب الخلاص من المأزق الذي وضعه بها صانعها ، فازدادت الحمرا عزة وشموخا ، وظلت شاهدا على عبقرية أمه فاقت الأمم كما تفوقت مدينة الحمراء الذي توهم المأفون أنه بإزالته بيت الشعر سقلل من قيمتها ن فصارت كما قال الشاعر على لسانها :
فقت الحسان بحلتي وبتاجي *** فهوت إلى الشهب في الأبراج
هذا البيت الذي محاه الملك المجنون ن سجل عارا على عارات عدة في جبين أوربا التي تجمع ابنتهما حول قاعتين عظيمتي الحجم ، وفي غاية الروعة همها: قاعة الريحان لكثرة ما بها من الريحان .. وأحيانا يسمونها قاعة البركة ، والأخرى قاعة السباع ، وهذه تحفه فنية يندر وجود مثيل لها ببركتها التي تتوسطها نافورة مرمرية حولها اثنا عشر أسداً يتدفق من أفواهها ، وبهوها القائم أعمة مرمية ، بلغ تنظيمها وتنسيقها وتصفيفها مبلغاً لا يمكن وصفه ، وهناك أيضاً نقوش في أسقف الحمراء تعتبر ملاحم حب وشجاعة ، وروايات مجد وشهامة ، وحكايات فن وصور سحر وجمال.
ومن شرفة قاعة العدل الفسيحة .. طلب منا الدليل أن نطل ، فرأينا تحتنا أكواخاً حقيرة .. قال إن الغجر يقطنونها وزيادة في الإيضاح قص علينا قصة قدومهم لإسبانيا موجزة بالتالي: ــ
" قد تتعجبون كيف أتي الغجر إلى هنا ، وهم ليسوا إسبانا ، فهم هنود في الأصل تفرقوا في شتى أرجاء الأرض ، وتجمعوا بشكل ملحوظ في مدينة غرناطة ، ولونهم شديد السمرة ، وعددهم اليوم في غرناطة وحدها يتجاوز الألفين ، جاء بهم إليها الملكان الكاثوليكيان " إيزابيل، وفرديناند " وكانوا يصنعون الأسلحة للمحاربين " .
" أما ماذا يعملون اليوم ؟ فالمفاجأة .. أنهم لا يعملون شيئاً أنهم بالنصب والاحتيال لا يجارون ، ومن الرقص والغناء لا يملون ، والراحة والمرح يعشقون " .
طبعاً ، رقصهم وغناؤهم من ورائه يكسبون ، فكثير من السياح يتجه نحو أكواخهم وكهوفهم ويجلس بينهم منشرحاً ، بما يقدمون أمامه .. ولكن ويلا لمن يغفل عن نفسه منهم ، فهم لا يؤمنون ، وهذه عادة في كل الغجر في أي مكان من العالم ، ورغم أننا لم نشاهدهم إلا من بعيد ، فقد انطلت علي حيلة غجرية في أحد شوارع غرناطة حين عرضت مجموعة حاجات تمتاز بها المدينة ، فوددتُُ أن أبتاع منها شيئاً كتذكار ، وقد فعلت فاشتريت بمبلغ مائتي بيستة ، وحيث لم أكن أملك من القطع الورقية الأسبانية أصغر من خمسمائة ، أعطيت البائعة ورقة من هذه الفئة منتظراً البقية .. غير أن الغجرية ، ومن غير أن أشعر اختفت بسرعة البرق عن بصري ، ولما لاحظ المشرف وقفتي المرتبكة .. تقدم نحوي وسألني ، فحكيت له ما حدث . فضحك وقال : " المفروض أن أنبهكم ، على كل أنا متأسف " فاستعضت بالله ولحقت بالمجموعة ، وحمدته أن المبلغ لم يكن كبيراً ".
إن دارس التاريخ الإسلامي يعرف ثورة " الزط" التي أخدمها " المعتصم " وكانت من أصعب الثورات التي واجهها في فترة حكمة ، هؤلاء الذين وفدوا للعالم العربي إبان خلافته ، وانتشروا في الشرق والغرب باسم الغجر أو النور ، واستعملهم بعض الملوك والأمراء وكبار القادة والزعماء في صنع آلات الحروب في القرون الماضية.
فرغنا من قاعة القضاء .. وانتقلنا بعدها إلى قاعة كبار الضيوف والسفراء والرسل ن فإذا بها آية في الجمال ، وفر شرفتها الرحبة شاهدنا مناظر سهل " حدرو" الخلابة ، وعند النزر إلى هذا السهل الذي يبعث مشهدة في النفس نشوة وسعادة تذكرت ما قاله شارل الخامس عندما وقف على نافذة هذه القاعة : " إن من يضيع هذا ليعتبر أكثر الناس تعاسة ، وأشقاهم على وجه البسيطة " .
وهذا ما فعله الشقي .. أبو عبدالله محمد بن أبي الحسن الذي عق أباه البطل ، وتعاون مع أعدائه النصاري ، ووقف ضد عمه الفارس المغوار الذي ضرب مثلاً في الدفاع عن إسلامه وعروبته ، وصد عن نصيحة العقلاء من أشراف قومه ، وخان أمته ، وأفسد حال وطنه ، فضيع ملكا ، وأجهز علي كيان للإسلام في أوربا .
في غرفة النوم الرئيسية بالقصر .. تأخذ الدهشة الزائر حين يرى أرضيتها المرصوفة بالمرمر الخالص .. تتخلله شقوق يقال أن روائح الطيب الممتاز ،
والبخور النادر ينبعث منها الشذاء معطراً الأرجاء ، ومن نوافذها تمتد مروج فيحاء ، وحدائق غناء ، وبساتين " ليندا راجا " الحافلة بأنواع من الثمر يستحيل حصره .
وهناك حمامات الحمراء التي ينساب منها الماء بخرير منسجم ، وكأنها تسيل بإيقاع تزيده الصخور المرمرية ، روعة ، والسقوف الزجاجية بهجة . وصور النجوم والورود التي ينفذ منها السفر مضفياً بهاء وحبورا ، ومن بهو السباع خرجنا إلى ساحة سراج وزراء بني نصر ، الذي شاء سوء طالعهم أن يغصب عليهم السلطان فيجزرهم فيها .
وبإحدى غرف قصر مدينة الحمراء الذي كان أيضاً يقوم مقام قلعة حصينة لسلاطين وأمراء غرناطة .. ومن ضمن الغرف العديدة التي يحفل بها القصر الفاخر .. رأينا ما شد انتباهنا في سقفها المبني على شكل عنكبوت ، فاستعديت لسؤال الدليل ولكنه سبقني قائلاً: " هذا السقف لابد أنكم لاحظتم أنه على شكل عنكبوت " ، وأخذ يقص علينا قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، وكيف أنه اختفى عن العداء في غار، وأنهم نووا دخول الغار الذي يختبئ به عليه أفضل الصلوات والتسليم ، وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه ، ولكنهم عدلوا عندما رأوا أن العنكبوت قد بنا له على باب الغار بيتا فسلم وصاحبه من أذى المعتدين .
قال: " هذه استوحاها الأمير .. فأمر المهندسين بتسجيلها لتكون دليلاً على الإعجاز الذي أتى به الني محمد صلى الله عليه وسلم " .
وأخذنا بعد ذلك نطوف في أرجاء القصر وساحاته ، ممتعين انظارنا ونفوسنا بالفن المعماري النادر ، في رفعته .. فإذا بنا في ساحة الأختين ، ومنها ذهبنا إلى برج قمارش ، ومن ثم إلى المسجد الأصغر ويدعى أيضاً "مزكيتا" .
وهكذا .. من مكان لمكان مما لا يتسع لذكره المقام ، ومما يشهد أن مجموعة أبنية الحمراء غاية في الروعة وقمة فظلت شاهدة على سمو في الفكر، حتى أصبحت مزرارا لملايين الناس من شتى الأصقاع .
إن الطائف في الحمراء .. لا يمل قط ، فالمفاجآت تترى ، وكل ما يشده منظر أو عمل فني بديع يطالعه حين ينتقل إلى العديدة ، وحدائقها ، ورياضها ، والكثير مما لا يحصره عد أو يعبر عنه قلم ، وفي كل ذلك لا تفارق أنفه الروائح الزكية ، ومما يلفت النظر في الحمراء شعار بني الأحمر المزدانة به حيطان وجدران قصرها العظيم ، والذي لا يفارق العيون طوال مدة التجوال في القصر ، ويا لجمال الخط الذي كتب به هذا الشعار .
(( لا غالب إلا الله ))
سبحانه وتعالى وجلت قدرته ، وعلا شأنه ، فهذه الدنيا دول من شاء عزه ومن شاء ذله ، ومن لا يرعى نعمه عاقبة ، وقد أراد أن يجعل من أبي عبد الله عبرة لمن تسول له نفسه للخيانة والعقوق ، فأشقاه وجعله بغيضاً يكرهه قومه وينفر منه أقر أهله.
استمر تجوالنا في الحمراء ، فعقدت الدهشة ألسنتنا ، وبتنا مسمرين أمام جمال كل ركن وزاوية وغرفة وساحة وبركة.
إنه جمال أخاذ يسلب الألباب .. جمال بعثه الذوق العربي الرفيع ، والعبقرية الإسلامية الفريدة ، جمال انطلق بعفوية امتاز بها الإنسان العربي الذي قدس القرآن الكريم لغته ، وهذبت الشريعة مسلكه ، فرفع راية التوحيد والجهاد ، ونهض بقوة رقيقة ، وهمة عظيمة ، ليساعد المستضعفين ويخلص المظلومين ، فرفع الجور بفضل إيمانه بالدين الحنيف.
وفي الحمراء .. حانوت متخصص بصنع الأواني الخشبية ، المستوحاة أشكالها ونقوشها وزينتها من غرف وقاعات وأسقف قصر الحمراء ، ومنه يستطيع المرء أن يشتري ما يشاء من هذه التحف البديعة ـــ وإن لم يكن يستطيع حمل ما ابتاعه ــ فإن المسؤول عن المحل يتكفل بشحنها للشاري إلى عنوانه أينما يكون .. ولا يدفع زيادة على السعر المقرر سوى 5% فقط نظير أجرة الشحن.
ولقد ابتعت صينية متوسطة الحجم فضلت حملها ، مما عرضني لتعب شديد ، وجعل زوجتي وطفلها يتخلفان إتمام الجولة ، فندمت على التوفير الذي لا يساوي نصف ما تجشمته من مشقة أثناء التطواف في حدائق الحمراء.
ولكن ، قبل أن نتحدث عن حدائق الحمراء التي تأخذ بمجامع القلوب .. وتأسر النفوس روعتها .. سنلقي نظرة على " جنة العريف Generafere " القصر الذي تجلت عظمته من خلال بساطته التي يظهر فيه الأسلوب الشرقي واضحاً ، رغم ما فعله الدهر والإنسان به ، وما أفسده الجهل والصناع، فظل نضراً رغم تشويهه ، وجميلاً رغم محاولات تغييره .
وأخيراً .. زرنا الحدائق .. وخير ما يستحق الحديث منها .. الحديقة العربية التي بدت واسطة العقد ، حيث وقفنا أمامها طويلاً مشدوهين ، فأخذ الدليل يتحدث عنها وكأنه ينشد شعراً عن تنظيمها ، وتنسيقها ، وشكلها ، وفجأة .. التفت نحو شمطاء إنجليزية كانت تقف بمحاذاته رآها مشدوهة وسألها ما رأيك في تغيير شكل الحديقة منزلك إلى هذا الشكل الجذاب، تأفقت الحيزبون مشيرة بعصبية وتقزز بعدم الموافقة فكدت أصرخ بوجهها لولا الحياء ومراعاة الأداب العامة.
غرناطة عربية رغم أعجميتها، ودرة تشوييها وأميرة شامخة رغم اضطهادها.
غرناطة قرون سبعة ـ شعر نزار قباني ـ في تينك العينين، بعد رقاد
وأمية … رايتها مرفوعة.
وحيادها موصولة بجياد.
ما أغرب التاريخ كيف أعادني لحفيدة سمراء
من أحفادي
وجه دمشقي رأيت خلاله أجفان بلقيس وجيد سعاد ورأيت منزلهم القديم ودمشق أين تكون؟ قلت ترينها في شعرك المناسب نهر السواد مازال مختزناً شموس بلادي، في طيب جنات العريف، ومائها في الفل في الريحان في الكباد.
وفي عودتنا كان يصحبنا أحد المصورين التقط صورا لنا بالحمراء دون علمنا فجاءت طبيعته، وعلى طريق العودة بدأت أستمتع بما نمر عليه من المناظر الخلابة والقرى الجميلة، ولاحظت أعلى قمم جبال إسبانيا متوجه جبال سيرانيفادا.