طبيعة الأندلس وتاريخه قبل العرب فقد العرب إسبانيا ، ولكنهم لم يفقدوا أمجادهم فيها ــ بعض الادلاء إما أنها تنقسم الدقة ، وإما أنهم يتعمدون تجاهل الحقائق ــ خروج العرب من أسبانيا جعلها معزولة عن الحضارة ومتخلفة حالياً عن دول أوربا ــ الإسباني المعجب بالعروبة والإسلام ــ محاكم التفتيش وصمة التاريخ الكبرى ــ كان الأسبانيون مولعين بالشعر ، والأدب والفلسفة العربية :
عاثت بساحتك العدى يا دار *** ومحا محاسنك البلى والنار
عندما سقطت للإسلام دويلة في إسبانيا ، قامت له دولة في آسيا الصغرى :
بوركت صحراؤهم كم زخرت *** بالمرواءت رياحاً ورمالاً
إن طبيعة الأندلس لساحرة حقا، فجبال (سيرا نيفادا)و ( سيرا مارينا) تخترقها، ونهر الوادي الكبير الذي جرت حوله معركة الفتح العربي المؤزرة سنة 92هــ ويدعونه بالإسبانية (جواد لكفير Gualwvir ) يتخللها متباهيا من (سيركازورلا ) متجهاً إلى الجنوب الغربي ، ومارا بقرطبة عبر مناطق خصيبة حتى يصب في نهر المحيط الأطلسي .
لقد اجتمعت بالأندلس ميزات يندر أن تجتمع بسواه فمن التربة كثيرة الخصوبة ، الزاخرة بالمنتجات الزراعية ، المتنوعة كالحبوب , ومختلف أنواع الفاكهة ، وقصب السكر إلى ثروته المعدنية التي أفادت منها الشعوب التي حلت به منذ القدم .
وهناك طقسه المعتدل ن وجوه الجميل ، ومناخه الصحي وتضاريسه المنوعة ، بين جبال وسهول ، ومراع ، وأودية ، وأنهار وبحار.
لذا فقد كان مقصدا ، ومجال صراع لمختلف الأمم والأجناس كالفينيقيين ، الذين أقاموا المستعمرات والموانئ (قادس) واليونانيين والقرطاجينيين الذين أسسوا (قرطاجنة) وطردهم من الأندلس الرومان ، ومن ثم عبثت به القبائل البربرية إلى أن أنقذه منهم العرب.
وهنا لابد من الإشارة إلى برابرة أوربا، غير بربر الشمال الإفريقي ، فالأفارقة الشماليون ــ وإن دانوا لفترة بالوثنية وبعضهم اعتنق اليهودية ن ومن أجناس مختلفة ــ فقد كانوا حربا على روما ، وعانوا كثيرا من الظلم والضغط ن فلما وصل المسلمون ديارهم لمساعداتهم ، تدفقوا للدخول في الدين الجديد وقد ساعدوا ــ فيما بعد ـ في الفتوحات الإسلامية ، ومنهم أبطال حققوا المعجزات كطارق بن زياد ، وقامت لهم دول ذبت عن العرب والمسلمين ، واستغرب معظمهم ، مولعين بالثقافة العربية ن ومتكلمين باللسان العربي .
عند الفتح العربي كان القوط الغربيون قد حل بهم الفساد وأصاب دولتهم الضعف ....فما أن خلصت إسبانية من ظلم أباطرة روما . وهجمات الشعوب البربرية المتدفقة من إسكندنافيا وآسيا ، على غرب وجنوب وشرق أوربا حتى تلمس سكانها بعض الاستقرار وشيئا من الأمن في ظل مملكة القوط ، وهذا أقصى ما كانوا يتوقون إليه ــ إلا أنه لم يحدث امتزاج بين الغالبين والمغلوبين ، ففصلت بينهما هوة من الامتيازات السحيقة ن فكأن أهل البلاد الأصليين أشباه أرقاء ، يقومون بكل شيء وكانت مهمة الدفاع عن البلاد منوطة بهم ، ويساقون إلى مزارع النبلاء والأشراف من القوط ويعاملون معاملة أدنى من معاملة الحيوانات.
ومما زاد في سوء الأحوال ، وترديها ، الصراع الذي قام بين الزعماء القوط حول السيادة وسلوك آخر ملوكهم (رودريك) الذي تدعوه المصادر العربية (لذريق).
طبعا قصة الفتح الإسلامي معروفة ــ وإن توقف المؤرخون عند روايات ثلاث هي :
اعتداء الملك القوطي على ابنه حاكم سبتة ، وخطبة طارق بن زياد واحراق السفن ــ والتي بدأت باتصال (يوليان) بـ (موسى بن نصير ) وانتهت باحتلال العرب لشبه الجزيرة الأيبيرية تقريباً.
إن بعض الادلاء إما أنها تنقسم الدقة وإما أنهم يتعمدون تجاهل الحقائق ــ فمر مرشدنا في قصر الحمراء مثلاً أى على ذكر فتح العرب لإسبانيا فقال: (لقد اضطر الإسبان إلى طلب العون من العرب المسلمين بعد أن عانوا الأمرين من الجرمان فجاء العرب ولكنهم لم يخلصوهم ، بل ابتلعوا أسبانيا متنعمين بخيراتها ن فنفعوا بذلك نفسهم أولاً وآخراً.
لاحظوا أنه لم يقل بالمفهوم التاريخي الذي عرف به القوط ، ولم يتطرق للأوضاع التي عاشتها أسبانيا في ظل سيطرتهم ، أو تعرض لكيفية معاملتهم للإسبان الذين كانوا يتسابقون على فضلات الكلاب ايت يمتلكها النبلاء القوط... غاظني ما تناساه ، فأصررت على الرد عليه فبت أتحين فرصة الإنفراد به، وحين واتتني سألته عن مدينته؟ فأجاب ، غرناطة قلت ــ لابد أن دماء عربية تجري في عروقك ؟ قال: " هذا محتمل " ــ قلت لا علينا فالوقت لا يسمح بمناقشة هذا الموضوع ولكنني أحب أن أتعرف إن لم تكن تعرف ، إما أن تتجاهل فهذه مسألة أخرى ــ ثم وجهت إليه سؤالاً هو : هل تعتقد أن العرب بفتحهم لإسبانيا ظلموا شعبها أو اضطهدوها ؟ قال: " لا أظن" قلت : أكيد أنك تعلم أنهم فقدوا أسبانيا بسبب تسامحهم ، وأضاف " وخلافتهم" فقلت : وهذا أيضاً عامل من عوامل عديدة ، ولكنني كنت أتمنى منك إطلاع الزوار على سيرة العرب وسلوكهم، وأنت تعلم ولا شك أنهم لم يكونوا كغيرهم يمسون حرية العبادة ، أو يفرضون لغتهم ، بل إن روعة الإسلام أسلمت لهم القيادة فتفوقوا حضارياً و مسلكياً وعسكرياً ، فلم يمايزوا بين كبير وصغير ، فالجميع سواسية كأسنان المشط أمام الشريعة ، وفي حكم القرآن وسنة الرسول ، لا فرق بين عربي و أعجمي إلا بالتقوى ، وأنهم عاشروا سكان البلاد الأصليين وتزوجوا منهم ، واختلطوا بهم ، فحصل التمازج الذي أذاب الفوارق ، وأقبل على الدخول في الدين الإسلامي ، به يتقيدون ، وبلغة العرب يتعلمون. قال : هذا صحيح فقلت : أريد أن أشير إلى أن زميلك في قرطبة قال عن فتح العرب لإسبانيا.
ولكن المجموعة التي كنت ضمنها ، كان قد اكتمل نصابها ، فما عاد الوقت يتيح فرصة أكبر للحديث معه عما بينه القرطبي بقوله: " إن الإسبانيين ظلوا أكثر من قرنين تحت حكم الرومان، ومثلها تحت حكم القوط ، ولم يتأثروا تأثراً بالغاً إلا بالعرب الذين تغلغلوا في العقول والنفوس" .
وعن تسامح العرب تحضرني الصورة العاكسة للتعصب المسيحي الذي بلغ في الأندلس منتهاه في زمن (عبدالرحمن الثاني) والذي كان بذرة اعتصام فئة قليلة ، في بعض المناطق النائية من أسبانيا ، فكان ما أبداه العرب من العدل والرفق والتغاضي عن الأخطاء الصغيرة ، وحسن المعاملة ، مدخلاً لنفر من الغلاة المهووسين الذين صدمهم التجاوب العظيم مع الحكم ، والعادات والثقافة العربية ، فأرادوا إفساد هذا النموذج الرائع للتعايش ، فلجئوا عندما لم يجدوا وسيلة للتحريض على العرب إلى شتم دينهم علناً ، وقد تخلل هذا السخط الذي لا مبرر له قصة حب بين راهب وشاب ن وفتاة مسلمة ما أبوها وهي صغيرة ، فرعتها أمها النصرانية فنشأتها على كره المسلمين مصورة لها نعيم محاربتهم ، وحين علم أخوها من أبيها ما تضمره تشدد معها ، وضغط عليها ، ويبدو أن انزعاجه من تصرفاتها اضطره لاتخاذ هذا الموقف دون أن يبذل محاولات لإقناعها عن العدول عما هي فيه، فازداد كرها ونفرت نفوراً عظيماً، جعلها لا تبالي بما سيحدث لها ، فانطلقت مدفوعة بعاطفتها القوية نحو الراهب ، ومقتها الشديد لأخيها، وتربيتها غير الإسلامية ، تعاون من تعلق به قلبها في تحريض الناس على الشتم العلني إلى أن بلغ السيل الزبي، وكاد السكوت عن هذه الأعمال يهدد بحدوث فتنة ، فما كان من قاضي قرطبة إلا أن حكم على مثيري الشغب بما يقرره الشرع في مثل هذه الحالة، فأعتقد المغرر بهم أن مصيرهم سيكون الجنة ، فأقبلوا عن جهل وضعف عقل يتسابقون على الشتم لدرجة ممجوجة ، جعلت العقلاء النصارى ورؤسائهم الدينين يعقدون مؤتمراً استنكروا فيه هذه الأفعال، لأن الإيمان لا يكون بهذا الأسلوب الخارج عما يأمر به الدين .
وإذا كان ذو الحصافة قد لاموا هذه الشرذمة، فإنهم كانوا يعرفون رفق العرب في الدعوة إلى العقيدة الإسلامية واللغة العربية ، وأن هذا الرفق في الدعوة من ما يمتاز به الدين الحنيف ، جعل الكثيرين من النصارى يدخلون الدين الإسلامي طواعية ، وأنهم لم يفرقوا بين المسلم وغيره في المعاملة ، فكما أن الزكاة مفروضة على المسلم فعلى غيره الجزية ، فعم الارتياح العظيم لحكمهم ، والحب الكبير للغتهم ، وكان معظم الإسبانيين مولعين بقراءة الشعر والأدب والفلسفة العربية ، وأقبلوا بشغف على تعلم مختلف المعارف الإنسانية بلغة العرب ن لأنها عذبة الألفاظ بليغة الأداء والإنشاء كما ذكر الراهب (دوزي) : ــ
إن قراءة الكتب المقدسة باللغة اللاتينية لا تكاد تجد من يهتم بها ، والشباب الإسباني الذكي لا يعرف إلا العربية ، :ما وأنهم معجبون بها ، وهؤلاء الشباب كانوا يسخرونا من الكتب اللاتينية ويقولون ... إن الفائدة منها لا تساوي التعب في قراءتها"
وهكذا نسي المسيحيون لغتهم ، وجهلوا كتبها ، وزهدوا في بلاغتها، ولكن أمة العرب في عصبيتهم القبلية ، أثناء الفترة الأولى لحكمهم إسبانيا ، فترة ما يسمى بعهد الولادة التابعين للخلافة في دمشق فقد انتقلت إليهم خلافات القيسية واليمانية من عاصمة الخلافة ، إلا أننا لا نستطيع تجاهل العزيمة الجبارة في سبيل الفتح ، ونشر العقيدة ، خلال هذه الفترة ، وحين نتذكرها نجد أبرز معالمها (معركة بلاط الشهداء ) و(عبدالرحمن الغافقي) والتي يعرفها الأوربيون (بيوم يوانتييه ) والحديث عنها من باب التكرار ، لأنها معروفة لا تحتاج لبيان ، فلو انتصر العرب فيها لدخل الإسلام فرنسا وبريطانيا ن ومنها تسلل لمعظم جهات القارة الأوربية ، وعندما نقرأ من نص عربي قديم سنعرف ما كان يمثله به من قوة وشجاعة وتحقيق ما يشبه المعجزات ، قال صاحب النص:
اجتمعت الفرنج إلى ملكهم الأعظم قارله (شارل) ، وهو المعروف بالمصادر العربية القديمة بالمطرقة آنذاك ــ قد حكم بل كان رئيساً للقصر الملكي ، ولكن السلطة الفعلية كانت بيده وقد أنجب شارل مارتل ولداً صار من أعظم ملوك أوربا في قرونها الوسطى وهو شارلمان .
نعود للنص " فقالت له ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب ن كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس ، حتى أتوا من مغربها واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة ، والعدد بجمعهم القليل وقلة عدتهم ، وكونهم لا دروع لهم فقال لهم : الرأي عندي ألا نعترضهم وهم في إقبال أمرهم ، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد وقلوب تغني عن حصانة الدرع ، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ن ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرئاسة، ويستعين بعضهم ببعض ، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر"
ظل الصراع قائماً في الأندلس إلى أن قوض المسودة الحكم الأموي في المشرق ، فأزداد شراسة ، وكان فرار عبد الرحمن بن معاوية من بين أيدي العباسيين رحمة نزلت على سكان الأندلس حين دخلها مستقراً في قرطبة ، ولم يطب له الأمر بسهولة لأمن جهة الولاة الطامعين ن ولا العباسيين المحرضين ، فظل في كفاح مرير ضد الفتن والعصيان ، فما ارتاح له بال أو استقر حال إلا بعد جهد جهيد حتى بات يشك بمن حوله ، يظهر ذلك جلياً في خطبة له جاء فيها" ما عجبي إلا من هؤلاء القوم سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن والنعمة ، وخاطرنا بحياتنا حتى بلغنا منه إلى مطلبنا بالسيوف، ولما آويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله به ..هزوا أعطافهم وشمخوا بآنافهم ...فنازعونا فيما منحنا الله تعالى ... إذ اطلعنا على عورتهم ، فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا، وأدى ذلك إلى أن ساء ظننا في البريء منهم ن وساء أيضا ظنه فينا .. وصار يتوقع من تغيرنا عليه ما نتوقع نحن منه" .
ومما يجدر ذكره أن عبدالرحمن بالإضافة إلى فروسيته وجلده وقوة جأشه وحسن تدبيره ، وحصافته ، كان شاعراً وخطيباً بليغاً.. ومن شعره المعروف قوله متشوقاً للشام:
أيها الراكب الميمم أرضي *** اقرأ مني بعض السلام لبعض
إن جسمي كما علمت بأرض *** وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا *** وطوي البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا *** فعسى باجتماعنا سوف يقضى
لقد ثبت عبدالرحمن حكمه بأخواله البربر ... واستطاع أن يفرض هيبته، فقضى ــ بعد عناء ــ على التفرقة فتحاب الجميع وترابطوا ، ولكنه لم يتلقب بالخلافة ...فلماذا ؟
ذلك مرده ــ كما يعتقد بعض المؤرخين ــ إما لأنه لم يحكم الحجاز وإما لبعده عن مركز عصبيته...فابن خلدون يقول :
" إن عبدالرحمن لم يتخذ سمة الخلافة تأدباً منه في حق الخلافة بمقر المسلمين ومنتدى العرب" وقد يكون أيضاً" ... والمسعودي يذكر :
" أن الخلافة لم يكن يستحقها عند بني أمية إلا من كان مالكاً للحرمين الشريفين " وقد يكون السبب عدم رغبته في الاصطدام بالعباسيين الأقوياء ، وأنه بصعوبة أقر الأحوال بجهته ، وكان ينتظر الوقت الذي يحين به تحقيق ما في نفسه ن ولكن هذا الوقت لم يحن إلا في عهد عبدالرحمن الثالث الذي لمس ما أصاب الدولة العباسية من الضعف حيث غدا الخلفاء العوبة في أيدي الخدم والعبيد ، وتقاسمها الشعوبيون عملياً.
وفي عهد الداخل جرت معركة وجد بها الأوربيون مجالاً رحباً للخيال والمبالغة ن والتزوير الافتراء على العرب ، وكان الهدف منها تحقير الإنسان العربي حقداً وكرها له ونعته بما ليس فيه ، فألف شعراؤهم ملحمة أضيف إليها فيما بعد ــ عدة ملاحم تولدت منها وهي (أنشودة رولان)
وأصل الحكاية أن ولي كل من برشلونة وسرقسطة العربيين تحالفا ضد الداخل، فطلبا مساعدة شارلمان الذي وافق بعد أن اشترط عليهما تسليمه بعض الحصون، فلما عبر البرينية إلى سرقسطة ، وكان يتوقع انتظار حليفيه ، ولكنه وجد الخلاف دب بين الحليفين ، حيث تحصن واليها فيها ن فأنضم والي برشلونة إلى شارلمان لمحاصرته ن بيد أنهما فشلا، ولما ينس شارلمان من دخول المدينة لشدة مقاومتها ، طلب من والي برشلونة تسليم ما وعد به ، فأبى الاستجابة لمطالبه ، فقبض عليه وعزم على الرجوع إلى بلاده غير أن أبنى الوالي لحقا بشارلمان بينما كانت جيوشه تعبر ممر (رونسفال) ولم يتمكنا إلا من مؤخرتها ، فانصب عفهما عليها حتى سحقها تقريباً، وكانت خسارة شارلمان كبيرة بهذه المعركة ففقد أمهر قواده ومن ضمن هؤلاء رئيس بلاطه (رولان) بطل الأنشودة المؤلفة من أربعة آلاف بيت خلال ثلاثمائة سنة ن وقد اهتمت بشكل خاص على نفخ رولان بالبوق لإسماع سيده ، وصورت عودة شارلمان مشتتاً شمل قتله رولان بعد سماع النفخ بالبوق دون أن يستطيع إنقاذه لأنه كان في رمته الأخير ، وطبعاً هذا لم يحدث لأن شارلمان لم يعد لإنقاذ مؤخرته، بل فر خوفا من أن يلحق به ما لحق بمحفظ قصره ورئيس خاصته... ورئيس بلاطه.
لقد خلق الداخل بقوته ن وحنكته ، وشجاعته دولة في أسبانيا موحدة قولة الأركان، ووطد فيها الأمن والاستقرار ، فأخذ العقل العربي ينمو حتى بلغ النضج فالنبوغ. فزهت الأندلس " بحضارة إسلامية مادتها من الشرق ــ على حد تعبير أحدهم ــ وبناتها من الغرب وكانت النور الوحيد الذي انبعث في أوربا المتخبطة في دياجير الجهالة ، والراسفة في أغلال الظلم ، فاقتبس الأسبان ثقافة العرب واعتنق الكثير منهم دينهم ، ,تحدثوا بلغتهم ، وشغفوا بأدبهم ، فقامت المدارس ، وأنشئت المكتبات العامة، ونشطت حركة
استسلام غرناطة ، صورة شهيرة للرسام بريديلا
التصنيف والتأليف ، ونهض الأدب ، وارتفع شـأن الفنون ، فعقدت مجالس المسامرة ، والمناظرة والغناء ، استمرت في رفعة ، ومن حسن إلى أحسن ، حتى بلغت أوج مجدها وغاية عمرانها وتمام بنيانها في عهد الخليفة عبدالرحمن الثالث ، ابنا الحكم ،. الذي كان أهم شيء في حياته الجانب الثقافي ، فلقب بـــ (دودة الكتب)، وفي عهدهما صارت اسبانيا غاية في القوة والسطوة والثروة ، .فنافست بغداد ...بل فاقتها وقال أحد المؤرخين الأسبان المعاصرين عن عبدالرحمن الناصر :
(إن عبدالرحمن الناصر أولى أن يكون من ملوك العصر الحديث، لا من ملوك القرون الوسطى ).
بعد وفاة الحكم بدأت مؤشرات الخلاف في بني مروان تظهر إلى أن آل سلطان إسبانيا لملوك الطوائف الذي أوهن كواهلهم داء الانقسام ، وفساد النظام ، وزاد البلاء ضغثاً على أبالة التحرك النصراني الفعال ، ورغم انتصار العرب في (الزلاقة) حيث استعان المعتمد بن عباد بــ (يوسف بن تاشفين) الذي هزمت جيوشه في الأندلس جيوشي (الفونس السادس) ملك قشتالة .. حتى طمع الملك المرابطي بأخوته في الأندلس واستولى عليها فورثة عليها الموحدون الذين خلفوا دولة المرابطين في إفريقيا، ومن ثم تكاتف الفرنجة فسلبوها من أيديهم مدينة مدينة، وهذا ما جعل ابن عباد يختار رعاة الجمال على رعاة الخنازير ن فكان نصيبه السجن في (أغمات )، وقد قال وهو في قمة مأساته حينما دخلن عليه بناته في يوم يعد وهو سجين :
فيما مضى كنت في الأعياد مسروراً *** فجاءك العيد في أغمات مأسوراً
ترى بناتك في الأطمار جائعة *** يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
يطأن بالطين والأقدام حافية *** كأنها لم تطأ مسكاً وكافوراً
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا
ولكن ماذا أفاد العرب من تفتح أذهانهم ؟ ... لقد أعطوا بعبقرية ونبوغ ،. ولكنهم ــ وإن سُلبوا أكثر مما أخذوا ، لأنهم كانوا بالعصبية محكومين ، وعلى الرئاسة متحاربين ، فلم تؤثر البيئة في طبائعهم الصحراوية رغم تكيفهم معها ، وتمتعهم بالطبيعة الجميلة ، والأجواء المتغيرة والمناظر المختلفة ، والأمطار المتصلة ، ,الخمائل والأدواح ، والسهول والمروج والجبال
بكل هذه صفت وجدانهم ، وعقولهم ، ولكن قلوبهم لم تصف ، فحملوا الضغائن لبعضهم ، وعلى دروب الإبداع رقت أحاسيسهم ، ولما ضاقت على شعرائهم أوزان الشعر استحدثوا الموشح ... قال ابن بقي:
بأبي ريم إذا سفرا
أطلعت أزراره قمرا
فأخذوه كلما نظرا
وقال بن سهيل :
هل درى ظبي الحمي أن قد حمى *** قلب صب حله من مكنس
فهو في حر وخفق مثلما *** لعبت ريح الصبا بالقبس
يا بدورا أطلعت يوم النوى *** غررا تسلك في نهج الغرر
وعارضه لسان الدين ابن الخطيب:
جادك الغيث إذا همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا وحلما في الكرى أو خلسة المختلس
وقال بن خفاجة :
يا أهل أندلس لله دركم ماء وظل وأنهار وأشجار
وفي وصف الأندلس قال ابن الخطيب : ( خص الله تعالى بلاد الأندلس ، من الريع وغدق السقيا ، ولذاذة الأقوات ، وفراهة الحيوان، بما يحرمه الكثير مما سواها من البلدان) ...وغيره قال الكثير الكثير.
المهم هذه النعمة بددتها الخلافات ، فأضاع العرب بسببها الأندلس ، حيث قوى أعداؤهم ، فتوالى سقوط دويلات الطوائف العربية واحد إثر أخرى ن الأمر الذي شجع الفرنج علىرص صفوفهم ، فأسقط الفونس الاول (جيليقيا وليون)بعضها ، وتلاوة الفونس السادس فاستولى على (طليطلة )، فقال الشاعر العربي يرثيها:
لثكلك كيف تبتسم الثغور *** سروراً بعد ما يئست الثغور
طليطلة أباح الكفر منها *** حماها... أن ذا نبأ كبير
وجاء الفونس العاشر فطرد العرب من قادس ، والحادي عشر تمكن الاستيلاء على طريف.. واستمرت انتصارات النصارى على المسلمين في إسبانيا حتى سقطت غرناطة آخر ممالك العرب فيها ... وبما أن الشعر ترجمان الشعور فقد تأثر ابن خفاجة بما حل ببلنسية فقال:
عثت بساحتك العدى يا دار *** ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر *** طال إعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها *** وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها *** لا أنت ولا الديار ديار
قال العسال عندما احتل النومانيون مدينته:
هتكوا بخيلهم قصور حريمها *** لم يبق لا جبل ولا بطحاء
جاسوا خلال ديارهم فلهم بها *** في كل يوم غارة شعواء
باتت قلوب المسلمين برعبهم *** فحماتنا في حربهم جبناء
بلغ النصارى غاية قوتهم بزواج ( إيزابيل ) ملكة قشتالة و(فرديناند) ملك أراجون ، فتوحدت قوتهما فأطلق عليهما ( العاهلان الكاثوليكيان) ، وقد استطاعا أن بتما ما كان بدأه من سبقهما ، وهما اللذان اغتصبا غرناطة من بني نصر ، الذي ظل أثرهم الخالد حتى الآن يحكي قصة المجد العربي.
إن سقوط غرناطة شكل تحولات خطيرة في تاريخ الإنسانية ، وسجل مسارا لها يختلف عن سابقه ، فبسقوطها انقضت مرحلة وبدأت أخرى ..وانتهت عهود وبدأت أخرى وما صحب هذا من تغير ثقافي ، اجتماعي ، وسياسي، واقتصادي، ومن تبدل في الأفكار والمفاهيم واكتشافات وفتوحات..
ثقافياً: عادت إسبانيا القهقري فاحتلت المؤخرة بالعهد المسيحي بجدارة بعد أن كانت تحتل مركز الصدارة في العهد الإسلامي.. وذلك بسبب الاضطهاد الذي مارسه الساسة الجدد.. وإطلاق أيدي رجال الدين الغلاة في قتل ، نهب ، وحبس، وتشريد المسلمين .. فصارت محاكمهم لعنة من لعنات التاريخ الكبرى ، لكونها كانت وصمة عار لا تنسى حيث لم تكتف بسوق المسلمين إلى المقاصل وإجبارهم على اعتناق النصرانية والتجسس عليهم للتأكد حتى شعر كل إسباني بأنه غير آمن من مخالبها ، وإنما تطورت فصارت تراقب الفكر .. ومن لم يخرج ظل متخفياً يظهر المسيحية تقية .. ويبطن الإسلام ، ويبدو لي أنه حتى الآن يوجد مسلمون لا يستطيعون إعلان إسلامهم رغم زوال الاضطهاد والتعصب .. ولكنها ظلت عادة ألفوها وما زوال استطاعوا الخلاص منها ــ وإن الفكر الخلاص منها ــ وإن عرف أحدهم بأنك مسلم فإنه يفخر بأصله العربي ، ويبدي لك إعجابه بالإسلام .. ويلمح ولا يصرح ، حيث لا يزال للكنيسة في إسبانيا بعض النفوذ والسلطة .
لقد أصاب التأخر كل أيبيريا.. عمها التخلف ... فغدت بعد ترك العرب لها معزولة عن الحضارة الإسلامية مما جعلها الآن من أكثر الدول الأوربية فقراً وتخلفا ، لأن ساستها المتقدمين أعماهم حقدهم ، فلم يجعلوا بلادهم تستفيد من نبع الثقافة العربية الدافق كما فعل الملك الصقلي ــ وإن تفوق الأسبان في فترة لم يكن تفوقهم أصلاً ــ فسرعان ما هوت الإمبراطورية ، بسبب معاناتها ، الثقافية الشديدة بعدما حاقت بها الأزمات فانحطت قيمتها حتى قيض الله لها (فرانكو) الذي تمكن من إقرار الأمور ، فالتفت الإسبانيين للتراث العربي في إسبانيا ، والآثار الإسلامية ، وحافظوا عليها بمعونة بعض المؤسسات والجامعات العالمية ، فأقيمت تماثيل لابن حزم ، وابن زيدون وابن حيان وأولاده ، باعتبار أن التراث العربي في إسبانيا يعتبر ملكاً للإنسانية.. واهتم الأسبان بذلك للمردود المادي الكبير الذي يشكل دخلا قوميا كبيرا في ميزانية دولتهم..
نعم ، جنت محاكم التفتيش على جناية لا تغتفر على إسبانيا فسبقتها إلى النهضة كل أوربا تقريبا بفضل تعويلها على التراث العربي الذي حاربه الغلاة .. فتخلفت عن غيرها. هذا التحول الثقافي بعد خروج العرب ، تبعه تحول اقتصادي تمثل في الاكتشافات والاختراعات ومن ثم جاء التحول الاجتماعي بعد الانقلاب الصناعي والثورة الفرنسية.
ويبدأ أخيراً مسار للسياسة جديد ..حتمه المجال الحيوي لكل دولة كبرى ..فاستشرى شر الاستعمار الذي اعتمد على المطامع ، وبحمد الله انقضى عهده.. ولكن ذيوله بقيت آفة على الأمم والشعوب .. فاستحدثت أفكار ومفاهيم تغاير ما كان سائداً.. والخوف من صراع المعسكرين.
بسقوط غرناطة .. انتهي الوجود الإسلامي في أوربا في نفس العام الذي تم فيه اكتشاف العالم الجديد بعد رحلة الإيطالي (كريستوفر كولمبوس) برعاية عاهلي أسبانيا ، وقبل ذلك كان محمد (الثاني أو الفاتح ) قد أنجز فتح القسطنطينية ، وجعلها مدينة للإسلام الذي قامت له دولة قوية بعد انهيار دويلته الضعيفة .. فأخذت الجيوش العثمانية تدق أبواب أوروبا التي أصابها الذعر .
وهكذا نرى العرب خسروا آخر معاقلهم في إسبانيا وخسر الأسبان مركزاً للإشعاع في ديارهم ، خسر العرب إسبانيا بسبب ما قام بينهم من الفتن والمشاحنات الطويلة ، وخسر الأسبان مكانة حضارية كانت تتمتع بها بلادهم، بسبب محاولات ملوكهم ورهبانهم القضاء على كل مظهر من مظاهر الحياة العربية .. في شبة الجزيرة الإيبيرية ، خسر العرب إسبانيا ، ولكنهم طبعوا أمجادهم فيها ــ وان ضاعت ــ فقد ظلت آثارهم تحكي حكاية قوم بالترحاب قوبلوا .. وبالحب ملكوا .. فوفروا للناس إكسير الحياة في زمن مضى .. وعن أمجاد العرب في الأندلس التي يبدو تأثيرهم فيها أكثر وضوحاً حتى من بعض البلدان العربية يحار المرءويتيه منشدة الإعجاب .. وحب أهلها الذين يشعرونك بالقرب منهم